أين العقلاء الأتراك.. صورة بلادكم في خطر؟

2024.07.05 | 05:34 دمشق

535.jpg
+A
حجم الخط
-A

قبل يومين، فاز المنتخب التركي على المنتخب النمساوي، خرج الأتراك هنا في هولندا للاحتفال، يحملون العلم التركي ويملؤون الشوارع صخباً وضجيجاً في منتصف الليل والناس نيام في بلد ينام مواطنوه مبكراً، بينما كانت الشرطة الهولندية ترافقهم وتحميهم.

أما التلفزيون الهولندي فقد كان يستضيف صحفياً من جذور تركية عقب المباراة، وقد ملأ التصفيق الاستديو، مباركين له في نهاية المباراة فوز فريق بلده الأم على فريق النمسا، فرح مشاركة الآخر مشاعره وليست فرحة مصطنعة أو "كذابية" أو متاجراتية.

في الوقت نفسه أُعْلنت النتائج المدرسية قبل أيام، وعادة في هولندا يعلّق الطالب الناجح حقيبته مع العلم على شرفة منزله أو أحد الشبابيك، حيث تجد العلم التركي وحده يرفرف على عدد كبير من الشرفات، ولم نسمع أن مواطناً هولندياً وقف تحت شرفة ما، متسائلاً: هذه هولندا يا مواطنين فلماذا ترفعون علم بلدكم الأم وقد درستم في مدارس هولندية بتمويل هولندي!؟ وهكذا حال ملايين الأتراك في أوروبا، يعتزون بعلمهم ومناسباتهم وجذورهم من دون أي إشكال.

بل أقول لكم: لو فعل مواطن هولندي ذلك لاعتبره كثير من المواطنين الهولنديين أنه "غشيم عنصري" ومريض نفسي، يعيش خارج عصره، حيث باتت الهوية اليوم تقوم على التعدد والتنوع، ليس إكراماً لعين الآراء الفلسفية والقناعات الدينية والاجتماعية، بل بلغة المصالح والحاجات المتبادلة ومتطلبات الحياة.

السؤال الآن: لماذا تحتفل هذه الملايين من الأتراك، وهي حق ثقافي مرحب به طبعاً، وفي الوقت نفسه لا يسمح الأتراك للآخرين أن يعبروا عن هوياتهم الفرعية إن كانوا يعيشون في تركيا، ويمتعضون ويتحسسون وينزعجون؟

تخيلوا أبها العقلاء الأتراك، ونحن في هذا العصر التبادلي والتشاركي وبعد كل تلك الحروب الكونية والتجارب المريرة، تغدو العنصرية هوية لجزء من بلد، ألا يدخل ذلك في باب الخزي والعار والثبور!؟

بل إن هناك الكثير من الأحزاب التركية يرتبط وجودها بالعنصرية! تخيلوا أيها العقلاء الأتراك، ونحن في هذا العصر التبادلي والتشاركي وبعد كل تلك الحروب الكونية والتجارب المريرة، تغدو العنصرية هوية لجزء من بلد، ألا يدخل ذلك في باب الخزي والعار والثبور!؟

لماذا يغيب عقلاء تركيا عن الساحة؟ ويحضر شعبويون مجرمون عنصريون ليقدموا صورة تركيا؟ لماذا يترك أولئك العقلاء الساحة ليحتلها الشعبويون؟ أليس لديكم أدوات؟ ألا تستحق صورة جديدة لتركيا بالتضحية من أجلها؟ أيها العقلاء!

أليس الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أحد المساعي الرئيسية لكم؟ كيف سيقبلكم الاتحاد عضواً فيه، وبينكم هذا التفكير العنصري وتلك السلوكات غير الآدمية، حيث يهب مئات، بناء على شائعات، على مستضعفين وباحثين عن الأمان؟

كيف سينسى الاتحاد الأوروبي ذلك؟ وكيف سيقبل أن يكون أولئك العنصريون جزءاً من مواطنيه؟ العالم اليوم، أيها العقلاء، لديه ذاكرة من صور وأفلام، ولن ينسى ذلك لكم!

أيها العقلاء الأتراك.. الكثير من سياسييكم لاعبون غير محترفين، يفضلون اليومي على الاستراتيجي، ويبحثون عن انتصارات في ميادين الكل فيها خاسر، لا تصدقوا أن هناك منتصرا على مستضعف أو لاجئ أو ضيف أو سائح، من ينتصر على هذه الشريحة أو يتاجر بالإساءة إليها خاسر إنسانياً وأخلاقياً!

أيها العقلاء الأتراك اشرحوا للشعبويين أن الكثير من سياسييكم هم فاشلون في إدارة البلد أو معارضة إدارته الحالية، فالبلد الذي تغزو منتجاته العالم ويستثمر في معظم دول العالم يعيش معظم شعبه فقيراً، هذا تعبير عن فشل سياسي واقتصادي ومالي بامتياز، وليست المشكلة في آلاف من اللاجئين ليحمولهم كل هذا الفشل!

أيها العقلاء الأتراك: أتتذكرون البرامج الانتخابية الرئاسية والبلدية، معظمها بنى خططه وما سيحققه على اللاجئين وإغلاق الحدود؟ هل برأيكم هؤلاء سياسيون يعبرون عن تركيا، ألهذه الدرجة بلغ الاستهزاء بالعقلاء الأتراك؟ اكشفوا لمواطنيكم سوق النخاسة السياسي، والتلاعب بهم، وما آلت أحوالهم إليه.

هل يوجد عاقل يفهم بلغة المصالح والاقتصاد اليوم، يمكن أن يتخيّل أن مشكلة الأحوال الاقتصادية السيئة في بلده ولدت نتيجة وجود خمسة ملايين لاجئ مثلاً، تستقبل الدولة بسببهم مئات الملايين من المساعدات الأوروبية؟

حدثوا شعبويي مجتمعكم أن تلك الطاقات البشرية مفيدة لبلدكم تركيا، فهم عمال ومستثمرون ومستلهلكون، والأهم أن وجودهم جزء من سمعة بلدكم الإنسانية، ولولا وجود أولئك اللاجئين العابرين لرفعت الكثير من إشارات الاستفهام حول سمعة بلدكم!

ألا تحتاج الهوية التركية اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى فكرة أن الامتثال للقانون في بلد مستقر منذ عقود هو الحل، لماذا يغيب القانون ويحضر البلطجية والشبيحة والمجرمون والعنصريون؟ لا أريد أن أستسهل التعميم والتنميط للقول: إن الشخصية التركية تتسم بكذا وكذا وكذا كما يفعل أتراك كثيرون إبان تنميطهم للآخر، التعميم ليس من مصلحة أحد!

أيها العقلاء أخبروا شعبوييكم وعنصرييكم ومواطنيكم أن الأتراك اليوم هم ثاني جنسية ترتيباً ممن يتقدمون بطلبات لجوء في أوروبا؟ هل سأل أولئك الشعبويون لماذا؟ لماذا يطفش الأتراك من بلدهم؟ وليس لديهم حرب؟ أو ظروف مناخية سيئة؟ لماذا؟ فكروا قليلاً: لماذا؟

لن أتحدث معكم أيها العقلاء بلغة الدين والمهاجرين والأنصار والمستضعفين والمهزومين!

إننا نحن معشر السوريين نملك إرادة من حديد، وجبروتاً وطموحات وأحلاماً لا تحدها إلا السماء، لسنا شحاذين في أكسراي، ولا نقبل أن نكون درجة ثانية في أي بلد، ولسنا مخذولين ولسنا مهاجرين بالمفهوم الديني، نحن شعب حر، يبحث عن الحرية والعدالة والديمقراطية والمساواة ودفع أثماناً غالية لأحلامه.

اليوم مر على تشكيل الدولة التركية ووجود أتاتورك نحو مئة عام! أي هوية تبقى ثابتة المكونات مئة عام؟ إن لم تجدد ذاتها بذاتها سيتجاوزها الزمن وتتفتت خراباً ودماراً، انظروا إلى دروس التاريخ، وتعلّموا منها!

أيها العقلاء الأتراك، هذه ساعتكم ولحظتكم، صورة بلدكم في خطر شديد إنسانياً وأخلاقياً، إما أن تستثمروا الفرصة لتتخلصوا من كل هذا الزبد والغثاء والسخام الإعلامي والواقعي وكذلك أن تنبهوا سياسييكم إلى خطأ سياساتهم ومتاجراتهم، وإلا ستغرق هويتكم وصورتكم في بحر لجي لا قرار له، وقتها ستحتاج استعادة الصورة إلى عقود طويلة من العمل وقد لا تنجح.

أيها العقلاء الأتراك، تعيد الأمم النظر في مركبات هوياتها إبان الأحداث الكبرى والتحولات، ألم يحن الوقت للتفكير بأن الهوية التركية تحتاج إلى إعادة نظر، ليصبح التسامح بدل التعصب مكوناً جديداً؟ والتعدد بدل الأحادية؟ اليوم مر على تشكيل الدولة التركية ووجود أتاتورك نحو مئة عام! أي هوية تبقى ثابتة المكونات مئة عام؟ إن لم تجدد ذاتها بذاتها سيتجاوزها الزمن وتتفتت خراباً ودماراً، انظروا إلى دروس التاريخ، وتعلموا منها!

أتعلمون ما السبب لكي أدعوكم إلى إعادة النظر بهوية بلدكم ومفاهيمكم؟ لن أحدثكم عن أفكار فلسفية أو دينية بل سأحدثكم بلغة يفهمها الشارع التركي جيداً وخاصة الشعبويين الأتراك   ألا وهي لغة المصالح؟

تحدثوا مع مجتمعكم بلغة المصالح واخرجوا من عباءة المساعدة والمهاجرين والأنصار والمستضعفين! تذكروا السياحة والاستثمار والاستيراد والتصدير، وتذكروا أنه اليوم ليس الاقتصاد الزراعي أو التبادلي الذي يقود العالم، بل اقتصاد الأونلاين حيث تستثمر الشركات التركية مليارات الليرات خارج تركيا وتفيد وتستفيد.

أيها العقلاء: أليست تركيا هي بلد ناظم حكمت وإليف شافاق وأورهان باموق؟ البلد الذي قدّم شعراء وفنانين وفنوناً وبنى كل ذلك العمران الحديث هو ذاته البلد الذي يضيق بالضيوف ويرهبهم ويطبق قوانين عليهم كلها جور وظلم ولا إنسانية؟