أوروبا والخيارات الصعبة: بين العولمة والجيوبوليتيك وميراثها الليبرالي

2022.10.19 | 07:26 دمشق

أوروبا والخيارات الصعبة: بين العولمة والجيوبوليتيك وميراثها الليبرالي
+A
حجم الخط
-A

تبدو مؤشرات التراجع العام أوروبيًا اليوم أكثر وضوحاً، ومتعدد الاتجاهات. عملتها الموحدة (اليورو) في تراجع مستمر أمام الدولار الأميركي بعد أن كانت متقدمة عليه طوال السنوات الأخيرة. تزايد المظاهرات الاحتجاجية التي تعم غالبية الدول الأوروبية على غلاء الأسعار وسياسات التقشف الحكومية، فيما الحكومات تجتهد في المزيد عن البحث عن بدائل الطاقة والغاز الملّحة. فهل هي أزمة طارئة قادرة أوروبا على تجاوزها، والمسألة مسألة زمن؟ أم ثمة ما يجب فتح ملفاته في نقد السياسة الأوروبية؟ والسؤال الذي يراودني شخصياً هل لنا أن ننتقد أوروبا ونحن القابعون في مستنقعات الشرق بآلاف المعضلات والكوارث؟

منذ شباط/ فبراير الماضي، وتعيش أوروبا حالة من الخوف والترقب شبه العام من تطور الحرب الروسية على أوكرانيا. واحتمالات دخول أوروبا معتركها تزيد فرصها حسبما تفيد تقارير عدة. فيما يبدو الانزياح نحو اليمين المتطرف سياسياً بات أكثر تمدداً في السياسة الأوروبية، والأهم من هذا انزياح كلي لأوروبا عن استقلاليتها النسبية كاتحاد أوروبي عمره ثلاثة عقود فعلية، لعضوية الناتو كلية، بعدما حاولت أن تبقى على استقلالية نسبية منه. الانكماش الأوروبي العام والانضواء في حلف الناتو وصل لتلك الدول التي عرفت بالحياد في السياسة الدولية لعقود منذ الحرب العالمية، كالنرويج والسويد.

قلب أوروبا المتمثل بفرنسا وألمانيا، يرفض استعادة ذاكرة الحروب، وهي التي خاضت غمارها، ودفعت كلفتها الأكبر في الحربين العالميتين

من غير الجائز الحديث عن سياسة موحدة لأوروبا، فهي وإن شكلت اتحادها الأوروبي لكن بقيت لكل دولة منها توجهاتها وعلاقاتها السياسية المنفردة. لكن بالمقابل يمكن الحديث عن تاريخ مشترك لأوروبا عنوانه عصر الدولة الحديثة، عصر الأنوار، عصر الحريات والحقوق المدنية والسياسية والديموقراطية والمجتمع المدني، وإن اختلفت أزمان تحققها في بلدانها واحدة تلو الأخرى. وهذا بات محط شك ونقد واجب؟

تمايز الأدوار الاوروبية في القرن الواحد والعشرين بدأ مبكراً. فمنذ غزو العراق عام 2003 من قبل قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة والمملكة البريطانية، وقفت كل من فرنسا وألمانيا ضد الحرب وقتها. حيث بدا أن قلب أوروبا المتمثل بفرنسا وألمانيا، يرفض استعادة ذاكرة الحروب، وهي التي خاضت غمارها، ودفعت كلفتها الأكبر في الحربين العالميتين. بينما يتضح الدور البريطاني -وإن بقي عضواً في الاتحاد الأوروبي حتى انسحابه منه العام الفائت- بأنه ذو دور مختلف وسياسة متميزة عنها، فهي الشريك الذي لم يتنصل في قرار له عن الولايات المتحدة الأميركية. واليوم تتمايز هذه الأدوار في المسألة الأوكرانية أيضاً، فبينما تبدو التصريحات البريطانية أكثر وضوحاً بالإصرار على هزيمة بوتين في أوكرانيا، تحاول فرنسا وألمانيا، ومن خلفهما دول قلب أوروبا، لعب الدور المتوازن فيها والمناور التكتيكي.

وتبدو الخيارات الأوروبية هذه أمام محاور عدة: أولها تفادي تمدد الحرب لساحتها أو الدخول في معتركها المباشر، وثانيها المحاولة بكل الطرق الدبلوماسية والسياسية الاقتصادية واستبعاد خيارات الحرب، وثالثها محاولة الحفاظ على استقلالية نسبية، بحيث لا تخضع لشروط الروسبوتينية (روسيا- بوتين) الاقتصادية والطاقيّة إذا ما انتصر، وألا تبقى أسيرة الناتو إذا هزم بوتين. والحال الأخيرة شديدة الخطر، حيث لا يتوانى بوتين لليوم عن التهديد بالسلاح النووي إذا ما هزم في أوكرانيا. عندها المرجح أن تكون أوروبا هي الهدف الأقرب عسكرياً ونووياً، ويبدو الخياران أحلاهما هذه المرة علقم، فعلى أي الجانبين تميل أوروبا؟

منذ العام 2011 كان أمام أوروبا فرصة تاريخية، وهنا يحق لنا النقد والنقد الحاد أيضاً. فرصة أوروبا التاريخية كانت في بدايات أعوام الربيع العربي الأولى. فلو، وهذه الـ"لو" هنا ليست فاتحة عمل الشيطان بقدر دلالتها على ما فعله شيطان المصالح ومكر التاريخ، انتصرت أوروبا لتاريخها الحضاري، تاريخ الثورات الشعبية التي قطعت عصر الظلمات الأوروبية ونقلته العصر الأنوار. بدءاً من القرن السادس عشر إلى منتصف القرن الثامن عشر. تلك التي أسست لعصر الحريات والمجتمع المدني والديمقراطية وحقوق الإنسان السياسية والمدنية والإيمانية. تلك التي أسست لعصر الدولة العصرية، دولة سيادة القانون والعمل في سياسة الحكم بالعدل، والانفتاح والازدهار. فلو انتصرت أوروبا لثورات الربيع العربي في بواكيره، لكانت انتصرت لتاريخها الحضاري أولاً، وهو قبلة شباب الربيع العربي وقتها! وليس فقط، بل لحققت القدرة على أن تتجاوز عقدتي الاستقطاب الدولي بين شطريه الحادين: الجيوبوليتيكي الروسي والعولمي الأميركي. فروسيا المتحكمة بالطاقة والغاز الأوروبي، كانت ستجد أمامها مصادر مفتوحة منه في دول الشرق العربي كلها، إذا ما امتلكت شعوبها القدرة على بناء دولها الوطنية والتحكم بثرواتها بدل نهبها. وأميركا المتفوقة تقنياً وعسكرياً ومالياً على أوروبا، كانت ستجد في دول الشرق الرافعة الأساسية على تحقيق المزيد من الاستقلالية لأوروبا ودول المنطقة برمتها، خاصة إذا ما انتفت مولدات الحرب وضرورات بيع السلاح وإبقاء هذه الدول ساحة لتصفية الخلافات الدولية على حساب شعوبها.

لو انتصرت أوروبا فعلياً لثورات الربيع العربي في بواكيره، خاصة أن بدايته كانت ثورات شعبية تسعى للحرية والكرامة وبناء الدول العصرية وقِبلتها النموذج الأوروبي، لحققت ثلاثية: القيمة الحضارية وإعادة تجديدها، المصلحة العامة لعموم البشرية ونفي لغة الحروب فعلياً مع انتفاء مسبباتها، وتجديد الفكر العالمي بطاقات الشباب العربي. هو ذاته مثلث الشأن العام الذي شكل أوروبا الحديثة منذ عهد اليونان تحت مفهوم "Res- publica"، أي الجمهورية، والتي تعني الحقوق المادية والمدنية والأخلاق والقيم بآن. ومفهوم الشأن العام مجتمعياً كان سيتطور إلى مفهوم الشأن العام دولياً في تحقيق السلام العالمي والعدالة والإنصاف لشعوب العالم كقيم حضارية، وتحرير الاقتصاد العالمي من سياسات الهيمنة والتنافس الحاد المولد للحروب، وفتح الأفق لفكر الحداثة يجدد في بناء العالم والكون.

هل تدفع أوروبا ثمن تخليها عن ثورات الربيع العربي؟ وهي التي لم تقيّمه تقييمًا حقيقيًا من ناحيتي ميراثها الليبرالي المؤسس للحريات العامة والخاصة وسيادة القانون والدولة الوطنية

لقد اختارت أوروبا إدارة الربيع العربي والتحكم بمجرياته وفق مصالح سياساتها العولمية النيوليبرالية، وها هي اليوم تقع في مآزقها. اختارت أوروبا ترك سوريا لروسيا وإيران يفتكان بشعبها وحضارتها. كما كان العراق قبلها بيد أميركيا وبريطانيا وإيران. ولا يكفي أوروبا موقفها الأخلاقي بالرفض في الحالتين، فقد اكتفت بالتنديد الإعلامي دون الفعل المباشر، مع الضلوع في إدارة ثورات الربيع حسب ما تقتضيه مصالحها الأنية وحسب، وها هي اليوم في مواجهة العقدة الروسية الأميركية مباشرة!

هل تتحول أوروبا لساحة حرب مفتوحة؟ هل تدفع أوروبا ثمن تخليها عن ثورات الربيع العربي؟ وهي التي لم تقيّمه تقييمًا حقيقيًا من ناحيتي ميراثها الليبرالي المؤسس للحريات العامة والخاصة وسيادة القانون والدولة الوطنية، أو من ناحية مصلحتها في خروجها من الاستقطاب العالمي مزدوج العزم بين العولمة الأميركية والجيوبوليتيك الروسي الصاعد؟ وهل يمكنها اليوم إيقاف التمدد الروسي لقلبها اقتصادياً أو عسكرياً؟ وهل تستفيق أوروبا من غفلتها التاريخية وتستطيع إعادة ترتيب أوراقها العالمية، معتمدة على ميراثها الحضاري وخصائصها السياسية والفكرية المختلفة عن روسيا وأميركا؟ ربما على أوروبا اليوم العودة لملفات الشرق الأوسط من هذه البوابة لا من بوابة إدارة الأزمات. فتحقيق استقرار دول المنطقة يمكنه أن يكون الخطوة الأولى لاستقرار العالم، وهذه الفرضية ما زالت قابلة للاختبار أمام تطور المشهد العالمي في أوكرانيا والقابل للتمدد سريعاً لقلب أوروبا.