هناك بداية سيئة جداً انطلقت في العلاقة بين الرئيس الأميركي جو بايدن الذي أعلن عندما كان مرشحا للرئاسة أنه سيدعم المعارضة التركية لإسقاط حكم حزب العدالة، وهناك ردود تركية قالت إن زمن التدخل الأميركي في شؤون تركيا قد ولى منذ عقدين وأن القرار السيادي التركي ينبغي قبوله واحترامه.
خيبت إدارة بايدن الجديدة آمال الكثير من الحلفاء والشركاء لأنها جاءت تصعيدية حيالهم بدل أن تكون بهذا الاتجاه ضد الخصوم والأعداء. تركيا واحدة من الدول التي تعاني من مشكلة ترتيب علاقاتها مع واشنطن في هذه الآونة والسبب هو تخبط السياسة الأميركية في أكثر من بقعة جغرافية تتقاطع فيها مصالح الطرفين. ملف الأزمة السورية والعلاقات التركية الروسية بين أبرز مسائل الخلاف التي تتعقد يوما بعد آخر وكل المؤشرات تذهب باتجاه واحد نحو سيناريوهات التأزم والتصعيد.
هناك عملية إدارة ظهر تركية أميركية متبادلة منذ سنوات سببها خطوات وقرارات متباعدة في ملفات إقليمية كثيرة تقول أنقرة إنها لم تحصل على ما تريده من دعم بشأنها خصوصا في سياستها السورية وأزمة شرق المتوسط والحرب على الإرهاب، وهو ما قد يقود إلى تحول في سياسة تركيا الأميركية وترسيخ التعاون والتنسيق مع روسيا رغم كل ما يقال في صفوف المعارضة التركية حول مخاطر خطوة من هذا النوع تكون مرتبطة بعملية إعادة تموضع استراتيجي تركي إقليمي جديد والبلاد تعيش وسط بحيرة من الأزمات في الداخل والخارج.
البيت الأبيض فاجأنا في الساعات الأخيرة بقرار بايدن تمديد فترة المساعدات الأميركية إلى وحدات الحماية الكردية في شرق الفرات في إطار خطط الحرب على داعش بملايين الدولارات
تتحدث الأنباء عن وجود طلب تركي قدم إلى وزارة الدفاع الأميركية بهدف شراء 40 مقاتلة من طراز "إف- 16 " ومعدات لتحديث 80 من طائرات تركيا الحربية من النوع نفسه في سلاحها الجوي. معلومات من هذا النوع كان من المفترض أن تتحول إلى فرصة للتهدئة والانفتاح لكن البيت الابيض فاجأنا في الساعات الأخيرة بقرار بايدن تمديد فترة المساعدات الأميركية إلى وحدات الحماية الكردية في شرق الفرات في إطار خطط الحرب على داعش بملايين الدولارات، جنبا إلى جنب مع قرار تمديد العقوبات المفروضة على تركيا بسبب صفقاتها مع روسيا.
بيان بايدن يقول "إن الأعمال العسكرية التركية في مناطق شمالي شرق سوريا تقوض حملة دحر تنظيم داعش الإرهابي. وتعرض المدنيين للخطر وتهدد السلام والأمن والاستقرار في المنطقة، ولا تزال تشكل خطرا غير عادي واستثنائي على الأمن القومي والسياسات الخارجية للولايات المتحدة"، وهي كلها خطوات مرتبطة بما سبقها من قرارات أصدرتها وزارة الخزانة الأميركية بشأن فرض عقوبات على إدارة الصناعات الدفاعية التركية ورئيسها إسماعيل ديمير و3 مسؤولين فيها، نتيجة شراء منظومة إس 400 الروسية.
صحيح أن الرد الأميركي على الطلب التركي سيكون على مراحل لكنه لن يكون منفصلا عن مسألة مصير صفقة شراء أكثر من 100 طائرة "إف-35" أميركية الصنع بعد قرار إبعاد تركيا من برنامج صناعة الطائرة عام 2019. وحيث يقول أردوغان إنه على واشنطن أن تحسم موقفها إما بإعادة تركيا إلى البرنامج وإما بدفع مبلغ مليار و400 مليون دولار أنفقته أنقرة كمساهمة في المشروع. لكن الشق الأهم هنا هو إعلان الرئيس التركي أن بلاده ستؤمن احتياجاتها الدفاعية من أماكن أخرى إذا لم تساعدها واشنطن بهذا الصدد وإنها ستمضي وراء الحصول على دفعة ثانية من منظومة صواريخ "إس-400″، دون استئذان أحد.
شبه المؤكد على ضوء هذه التطورات الجديدة في العلاقات بين أنقرة وواشنطن هو ذهابها نحو القطيعة في الملف السوري وتحديدا في شرق الفرات وأن تركيا لن تتراجع عن مواقف وقرارات حماية أمنها القومي وحدودها التي تحاول أميركا تضييق الخناق عليها من الجنوب عبر حليفها قسد والورقة القبرصية ومن الغرب عبر الورقة اليونانية وبناء قواعد ومراكز عسكرية استراتيجية في بحري إيجه والمتوسط. لكن الأخطر سيكون احتمال مناقشة مثل هذه المسائل مع موسكو خلال لقاء القمة الأخير بين أردوغان وبوتين في سوتشي وبينها معرفة رأي موسكو في مسألة إبقاء آلاف أطنان الأسلحة الأميركية بيد الوحدات الكردية تحت ذريعة الحرب على داعش. لم تعرقل واشنطن الخطط التركية في التعامل مع ملف الأزمة السورية فقط، بل حولتها إلى أوراق مساومة، تناور بها مع موسكو وإيران ضد شريكها التركي.
مرة أخرى يبدو أنه من بين أبرز ما يقلق أنقرة ولم تكتمل عملية رؤيتها بشكل واضح حتى الآن هو حقيقة الموقف الأميركي في سوريا وكيف سيحسم في المرحلة المقبلة: هل ستترك واشنطن الملف بيد روسيا مقابل ضمانات تقدم لها ولتل أبيب حول أن النفوذين الإيراني والتركي سيكونان محدودين هناك وأن المرحلة السياسية الانتقالية ستتم بالتنسيق مع واشنطن وأن مصالح حلفاء أميركا المحليين ستبقى محمية في رسم خارطة سوريا السياسية والدستورية الجديدة؟ أم إن إدارة بايدن قررت نسف كل السياسات الأميركية السابقة في سوريا وعدم مغادرة المشهد حتى ولو كلفها ذلك الدخول في مواجهة مع روسيا وتركيا وإيران في بقعة جغرافية أعلنت أكثر من مرة أنها لم تعد بين أولوياتها الاستراتيجية؟
هل تغضب أنقرة واشنطن أكثر من ذلك عبر قبول العرض الروسي بتزويدها بمقاتلات سوخوي الحديثة بعد إنهاء الصفقة الثانية من شراء منظومات إس 400؟
عند تدقيق عملية توقيت الطلب التركي بشراء هذه المقاتلات يتبين أن الاحتمال الأقرب في الخطوة التركية هو أن أنقرة تريد أن تترك واشنطن أمام خيارين لا ثالث لهما: إما دفعها نحو التراجع عن خطوات التصعيد في ملفات إس 400 وإعادة تركيا إلى برنامج المقاتلة إف 35؟ أو ترك تركيا تؤمن احتياجاتها العسكرية وتحدث أسطولها الجوي عبر بدائل جديدة طالما أن الحليف الأميركي لا يعطي تركيا ما تريده؟
علينا أن لا ننسى أن قيادات مجلس الشيوخ والمندوبين في أميركا هي التي توحدت منذ عامين ضد تركيا وقرار شراء المنظومة الصاروخية الروسية
الطلب التركي المقدم لشراء المقاتلات الأميركية سيحتاج طبعا إلى فترة زمنية طويلة تمر عبر أكثر من دائرة قرار أمني وسياسي في واشنطن وسينتهي عند رغبة الكونغرس الذي سيحسم الموضوع. لكنه علينا أن لا ننسى أن قيادات مجلس الشيوخ والمندوبين في أميركا هي التي توحدت منذ عامين ضد تركيا وقرار شراء المنظومة الصاروخية الروسية.
المسألة أيضا ستكون مرتبطة بخيار واشنطن بين قبول 6 مليارات دولار ثمن المقاتلات وبدل تحديث مقاتلات أخرى كخطوة تصالحية أيضا أو الذهاب وراء خيارات تصعيد سياسي مع أنقرة في إطار حسابات تكون ارتداداتها الإقليمية أكثر جاذبية وضمانة لمصالح أميركا الإقليمية.
يقول الرئيس الأميركي بايدن في رسالته إلى الكونغرس المتعلقة بطلب مواصلة الدعم لوحدات الحماية الكردية في شرق الفرات إن العمليات العسكرية التركية في المنطقة تضر بخطط مواجهة تنظيمات داعش وتهدد أرواح المدنيين والاستقرار هناك. لا يمكن الفصل بين الإشادة بالمواقف الأميركية الداعية لعدم التطبيع مع النظام وضرورة معاقبته دوليا وتجاهل قرارات واشنطن الأخيرة مواصلة التصعيد ضد أنقرة وسياستها ومواقفها في شرق الفرات وتحميلها مسؤولية عرقلة الحرب على داعش وبين مسألة مواصلة إرسال مئات الأطنان من السلاح وملايين الدولارات الأميركية إلى مجموعات قسد ومسد هناك. كلا المسألتين من المفترض أن يكونا في سلة واحدة عند مناقشة خطط بناء سوريا المستقبل. الأنظار ستكون مشدودة هذه المرة نحو روما واحتمال عقد قمة تركية أميركية هناك في أواخر الشهر الحالي على هامش اجتماعات مجموعة الدول العشرين.