من نافلة القول إن إيران المسلّحة بأقل المعدات الهجومية كلفةً وأكثرها قدرة على اختراق مواقع محصنة يصعب اختراقها بسبب صغر حجمها وسهولة التحكم بها عن بعد، أعني تقنية الطائرات المسيّرة "درونز" المحلية الصنع، غدت قادرة على مواجهات مباشرة مع القوات الأميركية المعزّزة في غير موقع من العراق وسوريا.
فالتراجع العسكري الأميركي من الشرق الأوسط كما نشهده جارٍ على قدم وساق، ابتداء بسحبها منصات صواريخ باتريوت من المنطقة، مروراً بإنهائها أطول حروب أميركا الخارجية بتاريخها في أفغانستان إثر الإعلان عن مغادرة قواتها كامل البلاد، ووصولاً إلى إعادة حاملات الطائرات الأميركية إلى سواحل الولايات المتحدة إثر انتشار طال أمده في الخليج العربي؛ كلها مجتمعة مؤشرات على تصميم قوي لدى إدارة جو بايدن على إنهاء أعمالها القتالية في الشرق الأوسط والانكفاء إلى ما وراء الأطلسي.
لكن، هل يعقل أن تترك واشنطن المنطقة نهباً لحركة طالبان من جهة ولإرهاب الميليشيات الإيرانية العابرة للحدود من جهة أخرى، وتغادر بعد كل ما دفعته من أثمان مادية وبشرية هائلة في حروبها في أفغانستان والعراق؟ ومن سيملأ الفراغ الذي يخلّفه الأميركيون في حال تبع الانسحاب من كابُل انسحابات من سوريا والعراق حيث للميليشيات الإيرانية اليد الطولى على القرار السياسي والعسكري المركزي في العاصمتين دمشق وبغداد؟
يبدو أن إيران تستسيغ لعبة القط والفأر، وتعتبرها حلقة من حلقات الضغط على الولايات المتحدة من أجل جرّها إلى تنازلات
إدارة بايدن تريد تفعيل سياسة "القوة الذكية"، بمعنى أن تبقي على قوات محدودة في الأماكن التي كانت تنتشر فيها بأعداد كبيرة، على أن تكون مجهزة بالقدرة على الردع ورد أي اعتداء تتعرض له قواتها كما يحدث الآن من اعتداءات الميليشيات الإيرانية على قواعدها العسكرية وتمثيلياتها الدبلوماسية، وليس آخرها الاعتداء على مطار أربيل الدولي بالقرب من القنصلية الأميركية في كردستان العراق. فالرئيس بايدن كان قد أمر منذ وصوله إلى البيت الأبيض بشن ثلاث هجمات مباشرة على مواقع الميليشيات الإيرانية ومخازن يتم تصنيع طائرات الدرونز فيها، وهذا الأمر يتجاوز رد فعل السلف ترامب على إيران بالرغم من عداء الأخير الشديد لنظام الحكم فيها.
يبدو أن إيران تستسيغ لعبة القط والفأر، وتعتبرها حلقة من حلقات الضغط على الولايات المتحدة من أجل جرّها إلى تنازلات ما زالت واشنطن تمتنع عن تقديمها في المفاوضات النووية الجارية في فيينا، المفاوضات التي بدت متعثرة أكثر من أي وقت مضى.
وإيران ترى في الردود الأميركية على هجماتها عامل قوة ومحفّزا كبيرا لها، فقد استطاعت أن تجبر القوات الأميركية على الدفاع عن نفسها في أرض من المفترض أن يكون للأميركيين صفة التفوّق العسكري عليها (حتى الآن على الأقل).
من المؤكد أن الرئيس بايدن يريد انسحاباً كاملاً لقواته من كافة المواقع الساخنة في الشرق الأوسط مع الإبقاء على مجموعات قتالية محدودة في مهمة الردع (حصراً)، مع تجنب التصعيد مع المجموعات الجهادية أو الميليشيات العابرة للحدود، والتعاطي مع محاولات الاستفزاز بمنطق الاحتواء الدفاعي وليس الهجوم. لكن هل هذه السياسات تكفي لإعادة ترتيب الشرق الأوسط الذي يغلي على مرجل حامٍ؟!
البيت الأبيض تعرّض لانتقادات شديدة من النواب في الكونغرس الأميركي بسبب الأمر الذي أصدره بايدن بتوجيه الضربة الأولى في شهر فبراير الفائت ضد الميليشيات في سوريا. وطالب نواب من الجناحين الجمهوري والديمقراطي بوضع ضوابط للرئيس تحدّ من صلاحياته باتخاذ قرارات عسكرية منفرداً قبل أن تمرّ على أعضاء الكونغرس للبت بها والتصويت عليها.
وهنا يجد بايدن نفسه بين مطرقة درونز الميليشيات وسندان ممثلي الشعب الأميركي الذين لا يريدون المزيد من الضحايا الأميركيين في معارك يعتبرها عبثية ولا نهاية لها، بل ويتخوفون في حال استمرارها من أن تتحول إلى حرب استنزاف طويلة الأمد لا تكلّف إيران إلا القليل من العديد والعتاد، لا بل قد تكون الرابح الوحيد فيها.
ومع وصول إبراهيم رئيسي إلى سدة الحكم في طهران، يبدو أن كل تقدّم في المفاوضات سيجبّ ما قبله. فالولايات المتحدة لن ترفع عقوباتها دون ثمن، وكذا تريد واشنطن أن تُدرج ضمن بنود أي اتفاق مستقبلي قضية الميليشيات العابرة للحدود والأسلحة غير التقليدية التي تستخدمها طهران في اعتداءاتها وكذلك برنامج تصنيع الصواريخ البالستية. إبراهيم رئيسي الموغل في التشدد كما عُرف عنه عبر تاريخه المهني والسياسي، سارع في تصريحات استباقية إلى القول إن أنشطة إيران العسكرية والصاروخية والطائرات بدون طيار "غير قابلة للتفاوض".
المزيد من التعثر في مفاوصات فيينا لن يحمل إلا البؤس لإيران والقاتم من المستقبل حيث الانهيارات تتابع هناك في الاقتصاد المتهاوي تحت سوط العقوبات الأميركية
لا نعرف إذا كانت إدارة بايدن قادرة على إدارة الأزمة على بعد قارتين إثر اكتمال انسحابها من حروب ورمال الشرق الأوسط، هذا إلى جانب ارتفاع منسوب العنف المضاد لها الذي تضمره وتنفذه طهران. لكن ما نعرفه جيداً أن المزيد من التعثر في مفاوصات فيينا لن يحمل إلا البؤس لإيران والقاتم من المستقبل حيث الانهيارات تتابع هناك في الاقتصاد المتهاوي تحت سوط العقوبات الأميركية.
وإذا كانت إدارة بايدن أيقنت أن في الشرق الأوسط تعقيدات لا يمكن حلها من خلال الحضور الأميركي المباشر، وأنه من الأكثر جدوى إدارتها عن بعد، فندعو الله أن لا يشهد ذاك الشرق الغارق في دمه وتعبه انهيارات أمنية مقبلة إثر الفراغ الأميركي.