شكّل وصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض الأمريكي منعطفاً جديداً انعكست نتائجه على السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، وكان شعار ترمب " أمريكا أولاً " عبارةً عن إعلانٍ لإدارة سياسة الدولة الأكبر اقتصادياً في العالم خارج المألوف السياسي الأمريكي وخارج أعراف السياسة الدولية.
شعار " أمريكا أولاً " يدلّ على انتقال اتجاه مؤشر السياسة الأمريكية من الخارج الأمريكي إلى الداخل الأمريكي، هذا الشعار لم يأت من فراغ سياسي، فالبرغماتية الأمريكية الأشد تطرفاً وجدت تعبيرها الأقوى والأوضح من خلال الرؤية الجديدة التي يحملها عهد ترمب.
الأمريكيون من وجهة نظر " الترامبية " يعتقدون أنّ بلادهم كانت تدافع عن دول كثيرةٍ في العالم تحت يافطة " حلفاء أو أصدقاء " الولايات المتحدة . وكانت السياسة الأمريكية تقوم على مبدأ وجود عدو يهدّد مصالح الغرب كوسيلةٍ لتجميع القوى الدولية خلف القيادة الأمريكية، هذه الرؤية وهذا الفهم استبدلته "الترامبية" بقياسات سياسية جديدة، تقوم على مبدأ الصفقات التجارية. وهذه ذهنية تنظر إلى العالم على أساس أنه مجموعة من صفقات مختلفة يمكن اقتناص كل واحدة منها بمعزل عن اقتناص الأخريات.
شعار " أميركا أولاً " يدلّ على انتقال اتجاه مؤشر السياسة الأميركية من الخارج الأميركي إلى الداخل الأميركي
ذهنية العهد الترامبي التي تشكّل الآن محور سياسة البيت الأبيض الأمريكي مضت باتجاه إلغاء ما يسمى "حلفاء أو أصدقاء "واستبدلت ذلك بمقياس أنّ كلّ فعلٍ أو إجراءٍ تقوم به الولايات المتحدة من أجل نصرة حلفائها أو أصدقائها ينبغي أن يكون مدفوع القيمة.
" الترامبية " بهذا المنظور ألغت فعلياً مفهوم الاستراتيجية بعيدة المدى حيال تحقيق المصالح الرأسمالية العالمية وفي مقدمتها مصالح الرأسمال الأمريكي . لقد شكّل ذهاب ترامب للقاء حلفائه الأوربيين في حلف شمال الأطلسي " الناتو " صدمةً لكثير من دول الحلفاء، إذ قال لهم : إنّ الولايات المتحدة لا يمكنها تحمل عبء دفع تكاليف الدفاع عنهم، وإنّ الولايات المتحدة ليس عليها أن تُنفق تلك المبالغ الهائلة لتأمين أوروبا وإنشاء القواعد العسكرية على الأراضي الأوروبية.
هذه دعوة تختفي خلفها رغبة ترامبية بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي، وترك أوروبا مكشوفة أمام التهديدات القادمة إليها من الشرق " روسيا ".
الترامبية لم تكتف بذلك، بل دعت إلى تقارب حقيقي أمريكي روسي من موقع حلّ الخلافات بين البلدين، وهذا يعني انتهاء مفهوم أن تكون روسيا حسب الاستراتيجية الأمريكية منذ الحرب الباردة عدواً للولايات المتحدة ودول الغرب.
ذهنية الصفقات الترامبية انتقلت في إدارة شؤون السياسة الخارجية الأمريكية إلى ملفات عديدة مثل ملف كوريا الشمالية، وملف مقايضة العجز في الميزان التجاري الأمريكي مع الصين مقابل إفساح الولايات المتحدة المجال لنفوذ الصين في شرق آسيا.
ذهنية العهد الترامبي التي تشكّل الآن محور سياسة البيت الأبيض الأمريكي مضت باتجاه إلغاء ما يسمى حلفاء أو أصدقاء
ذهنية " أميركا أولاً " هي من دفع الترامبية إلى تبني مبدأ الحماية التجارية للسوق الأمريكي ضد مجريات اتفاقية " نافتا " واتفاقية ( TTP ) الخاصة بالتجارة عبر المحيط الهادئ والتي تضم 12 دولة.
الذهنية الترامبية التي تبني السياسة الخارجية على مبدأ الصفقات الرابحة حوّلت الولايات المتحدة برأي الدول الأخرى إلى شركة تجارية يرأسها ترمب ولم تبق بنظرهم تلك الدولة العظمى في العالم. وحوّلت الدول الشريكة لها إلى زبائن تجاريين. هذه الذهنية تكشف عن وجود أزمة عميقة غير معلنة يعيشها الاقتصاد الأمريكي أمام منافسيه الدوليين في بقاع متعددة.
هذه الذهنية تكشف أيضاً عن خللٍ بنيوي في جسد الاستراتيجية الأمريكية التي اعتقد الرئيس جورج بوش الأب ومن تلاه من الرؤساء الأمريكيين أن العالم صار " قريةً واحدة " محكومة من المركز المالي والاقتصادي الأمريكي.
جوهر السياسة الترامبية يبيّن أنّ العالم لا يتشكّل وفق المشيئة الأمريكية ، ولعلّ ما يجري في منطقة الشرق الأوسط من صراعاتٍ غير معلنة بين الأمريكيين ومنافسيهم الروس أو الإقليميين يوضح أنّ الأمريكيين بدؤوا يخسرون حلفاءهم واحداً تلو الآخر، وهو ما يشكّل ضربةً حقيقية للاستراتيجية الأمريكية.
الروس الذين قرّبوا موعد تسليم تركيا منظومة S400 الدفاعية كانوا يبعثون للأمريكيين برسائل غير مباشرة أنّ خساراتكم لحلفائكم هو مكسب لروسيا التي تتقدم يومياً نحو ساحات المنافسة الدولية للولايات المتحدة الأمريكية. وهذا الأمر ينسحب على الموقف الأوروبي من حرب الولايات المتحدة على الاقتصاد التركي ومحاولة تدمير رمز هذا الاقتصاد " الليرة التركية "
الصفعة الكبرى التي جعلت ترمب يعتبرها ضربة غدر جاءت من دولة الصين الشعبية التي أعلنت أنها تدعم حق تركيا في تنميتها
الأوروبيون أعلنوا صراحة أنهم يقفون مع بقاء دوران عجلة التنمية التركية وتحسن الاقتصاد التركي لأنهم ببساطة يمتلكون قيمة استثمارات مختلفة تصل إلى نسبة 67.5 بالمئة من قيمة استثمارات أجنبية في تركيا بلغت قيمتها 128 مليار دولار أمريكي.
الصفعة الكبرى التي جعلت ترمب يعتبرها ضربة غدر جاءت من دولة الصين الشعبية التي أعلنت أنها تدعم حق تركيا في تنميتها، وحقها في الدفاع عن أمنها القومي، والاقتصاد الصيني يعتبر الاقتصاد الثاني عالمياً بعد اقتصاد الولايات المتحدة " ناتج الصين المحلي تجاوز 12 تريليون دولار"
وهنا يمكن القول هل ستبقى دوائر صنع القرار الأمريكي رهينة لذهنية " الترامبية " التي يبدو أنها أُصيبت بعمىً سياسي سيدفع ثمنه الأمريكيون إذا لم تتم تنحية الذهنية الترامبية عن جوهر الاستراتيجية الأمريكية
وهل اعتراف مدير حملة ترمب الرئاسية " بول مانفورت " بالغش والتحايل الضريبي والذي دخل السجن منذ فترة قصيرة سيلعب دوراً مسرّعاً في تنحية الترامبية عن الحياة السياسية الأمريكية ..
ننتظر الأيام القريبة لنعرف اتجاه مؤشر البوصلة السياسية الأمريكية إلى أيّ اتجاه يشير.