بدأت الإمبراطورية الروسية بالخروج من قوقعة دوقية موسكوفا في نهايات القرن السادس عشر، ويختلف المؤرخون حول دور بطرس الأكبر في هذا، فمنهم من يعزو إليه الفضل في الانتشار الإمبراطوري والفكر التوسعي الذي أوصل الروس إلى المياه الدافئة في البحر الأسود وبحر قزوين، وأوصلهم إلى اقتحام مجاهل آسيا في السهوب السيبيرية التي لم تكن قد احتلت بعد من قبل القياصرة الروس، ولم تدخل بعد في الإمبراطورية الروسية، وسيبيريا هي منطقة آسيوية، ذات نسبة سكانية منخفضة جداً، تسكنها قبائل آسيوية مختلطة العرقيات بين الصين والمنغول والهون والشوينغو والإيغور.
وبعد انهيار الإمبراطورية المغولية، تمت إدارة المنطقة السيبيرية من قبل خانية سيبيريا، والتي انهارت مع تقدم طلائع القوات الروسية من القوزاق والجنود القيصريين الذين أسسوا أول مستوطنات روسية في الصحراء الثلجية السيبيرية الواسعة وذات الطبيعة البرية المتوحشة. ومع بدايات القرن السابع عشر استطاع الروس نشر الديانة الأرثوذوكسية بشكل أساسي في المنطقة وبناء مستوطنات كبرى لم تلبث أن تحولت إلى مدن كبرى، ومع وصول الروس إلى المحيط الهادي كانت مسألة عبورهم المحيط نحو القارة الأميركية هي مسألة وقت، فتجار الفراء وتجار الذهب والباحثون عن الكنوز كانوا من طلائع من استقلوا السفن واستقروا في ألاسكا ذات الطبيعة الثلجية والثروات الحيوانية المخيفة. وهكذا بدأ الروس في اعتقال السكان الأصليين واستخدامهم في عمليات البناء والسخرة، ويسجل المؤرخون الروس إحصائيات مخيفة لعمليات انتهاك مرعبة قام بها المستوطنون الروس الأوائل لمنطقة ألاسكا وسيبيريا، لا تقل وحشية عن الإبادة التي قام بها المستوطنون البيض في أميركا مع الهنود الحمر.
في ذلك الوقت بسطت الإمبراطورية الروسية نفوذها على أراض لا يمكن السيطرة عليها، تمتد من شرقي أوروبا باتجاه الشرق إلى حدود كندا، معلنة قيام أكبر إمبراطورية في العالم، وربما في التاريخ، ولكنها كانت ذات قيادة مركزية ضعيفة، وفقيرة.
استمرت الممتلكات الروسية في أميركا تحت الإدارة الروسية من عام 1733 حتى عام 1867. وهو التاريخ الذي صادق فيه الكونغرس الأميركي على صفقة بيع وانتقال ملكية ألاسكا إلى الولايات المتحدة الأميركية
مع تداعي المشكلات والحروب الروسية في أوروبا، نشأ ما تمت تسميته بـ روسيا الأميركية (روسكايا أميركا) والتي كانت تضم حينذاك أقصى اتساعاً للقيصرية الروسية، وتضم ألاسكا وكاليفورنيا، وأجزاء من جزيرة هاواي. واستمرت الممتلكات الروسية في أميركا تحت الإدارة الروسية من عام 1733 حتى عام 1867. وهو التاريخ الذي صدّق فيه الكونغرس الأميركي على صفقة بيع وانتقال ملكية ألاسكا إلى الولايات المتحدة الأميركية في عهد الرئيس أندرو جاكسون، والقيصر الكسندر الثاني، الذي كانت بلاده قد أنهكت في حرب القرم التي تخوضها في مواجهة الفرنسيين والبريطانيين، فبعد الإبادة البيئية التي قام بها المستوطنون الروس بحق ثعالب النهر، التي كانت تتمتع بفراء غال وفاخر جداً، والذي كان يجذب التجار والأثرياء من العالم إلى اقتنائه، بحيث كادت ثعالب الماء أن تنقرض في تلك السنوات نتيجة الصيد الجائر غير المقونن، والذي كان يدر مبالغ كبيرة على القيصرية الروسية. قرر القيصر الموافقة على بيع ألاسكا إلى الأميركيين في حركة ذكية واستباقية قبل غزو البريطانيين لها من الأراضي الكندية وخسارة روسيا لها في الحرب. تمت الصفقة مقابل 7 ملايين وربع مليون دولار، لأراض تمتد على مليون ونصف مليون كيلومتر مربع، أي بأقل من خمسة دولارات للكيلومتر الواحد.
تمت الصفقة وتراجعت الحدود الروسية الشرقية من الحدود الكندية وحتى مضيق بهرنج، تباينت ردود الفعل في الصحافة الأميركية حينذاك بين مؤيد بشدة لتلك الصفقة، وبين من اعتبرها أغبى فعل اقترفه وزير الخارجية المفاوض الرئيسي في الصفقة، من حيث أن تلك الأراضي هي صحاري ثلجية لا يمكن للبشر أن يسكنوها. ولكن بعد أقل من عشر سنوات، تم اكتشاف النفط والذهب والفحم فيها، لتعد من أغنى البقع في العالم بالثروات الطبيعية.
كان موقف الروسي لا مبالياً تجاه الصفقة حتى سقطت الإمبراطورية الروسية وحل محلها الاتحاد السوفييتي الذي ضم إليه عدداً هائلاً من الدول المجاورة للفضاء القيصري القديم، فلم يذكر ألاسكا أي أحد، من الساسة حينذاك، حتى سقط الاتحاد السوفييتي وبدأت عمليات المراجعة للأخطاء السابقة بالتصاعد، وازداد الاستياء الروسي في عهد الرئيس بوتين، الذي تعهد في مرات عديدة وخطابات متكررة بأنه سيستعيد كل الممتلكات الروسية في الخارج، بل إنه قبل أسبوع كان قد أصدر مرسوماً رئاسياً بمتابعة ما سماه الممتلكات الروسية في الخارج، قانونياً وإدارياً. مما دفع المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية للقول: "بأن ألاسكا لن تعود إلى الحضن الروسي أبداً"، في تعليقه على سؤال طرحه عليه صحفي أميركي. ولكن الأمر لم ينتهِ، حيث قام نائب رئيس مكتب الأمن القومي الروسي، ديميتري ميدفيديف بالرد عبر منصة إكس على المتحدث بالقول: بأن ألاسكا ستعود، وإن لم تعد فإن الحرب قادمة، في تهديد صريح وواضح للإدارة الأميركية الحالية.
إن الخطوة الاستباقية الروسية تجاه ألاسكا، هي حركة شطرنج متقدمة في الرقعة الدولية، يحاول بوتين من خلالها أن يربك الخصوم عبر تذكيرهم بأن تاريخهم لا يختلف عن تاريخ الروس
بالطبع يدرك الرئيس بوتين بأن ألاسكا لا يمكن أن تعود إلى روسيا تحت أي ظرف، ويدرك بأن عملية البيع التي قام بها سلفه قبل مئة وخمسين عام هي قانونية مئة بالمئة، لكنه يمارس نوعاً من الضغط على أميركا فيما يخص نظريته الخاصة بالمؤامرة على روسيا والتي تقودها أميركا، في محاولة لتقسيم وتفتيت الأراضي الروسية، للاتحاد الروسي، حيث كان الرئيس الروسي قد صرح مراراً، بأن الغرب يريد تفتيت البلاد عبر تقسيم الأراضي السيبيرية، وتشتيت الأعراق الروسية المستوطنة في آسيا، ودعم تمردات البلدان المستقلة في القوقاز مثل الشيشان وداغستان وبشكيريا وغيرها، فمن المعلوم أن الاتحاد الروسي يتألف من 24 جمهورية إضافة إلى جمهورية روسيا نفسها وعاصمتها موسكو. وإلى ذلك فإن الأراضي الروسية معرضة للتفتيت بحسب المؤامرة الغربية، وهذا ما دفعه للرد بغزو أوكرانيا، وجورجيا وكازاخستان، وضم أجزاء منها بحجة ضمان الأمن القومي الروسي.
إن الخطوة الاستباقية الروسية تجاه ألاسكا، هي حركة شطرنج متقدمة في الرقعة الدولية، يحاول بوتين من خلالها أن يربك الخصوم عبر تذكيرهم بأن تاريخهم لا يختلف عن تاريخ الروس، وبأن أي زعزعة للأراضي الروسية ستعني فتح ملفات وأملاك كانت في السابق تحت الوصاية الروسية.