أكاديمية الاستخبارات التركية

توجز توصيات مجلس الأمن القومي التركي في اجتماعه الأخير المشهد ربما، بعد طرح موضوع ضرورة وضع استراتيجية مستقبلية سريعة تتعامل مع تفاعل وانتشار الذكاء الاصطناعي وضرورة الاستعداد العملي والنظري لهذا الحقل الجديد في المدارس والجامعات والمؤسسات العلمية الفاعلة والمؤثرة في هذا المجال.

اشتعال المواجهات على الجبهات السياسية والأمنية والاقتصادية في أكثر من منطقة معروفة بوفرة ثرواتها، أو باتت تشكل ممرا لعبور التجارة في العالم. ثم دخول العولمة بكل ما تملكه من ثقل ودور في المعلوماتية والتكنولوجيا ومتطلبات التواصل السريع والتعامل معها بمهنية واحتراف، حتم على الراغبين بالبقاء أمام المشهد أو في حلبة المنافسة، اللجوء إلى منح الشق الاستخباراتي بكل أنواعه وتفرعاته المزيد من الثقل والدور.

إلى جانب اللاعبين الكبار، نجحت العديد من الدول الصغيرة أو متوسطة الحجم، في قراءة المستقبل وتجيير فرص الموقع والحلم إلى ساحة التقاء وتقاطع تجاري ومالي واجتماعي وثقافي، إقليمي ودولي في العقدين الأخيرين. البعض الآخر أختار أن يكون أداة أو وسيلة أو ملحقا بما يدور من حوله ويؤثر في رسم معالمه ربما، ولكن من خلال الدور الذي يحدده له الآخرون من أجل الحصول على تأشيرة عبور بين المكانين.

من يريد أن يكون حاضراً أمام طاولة رسم معالم النظام الإقليمي والعالمي الجديد، عليه أن يمتلك القدرات والطاقات والفرص التي تمكنه من ذلك، وهذا كان بين أهم شعارات وأهداف جهاز الاستخبارات التركية في العقدين الأخيرين.

منحت السلطات السياسية في تركيا جهاز استخباراتها وهي تستعد لتدشين المئوية الأولى من عمر الجهاز، ونتيجة متطلبات المرحلة في الداخل والخارج، الكثير من الدعم وأطلقت يده في خطط التغيير والتحديث الأفقي والعامودي لينشط داخل البلاد وخارجها دفاعا عن أمنها ومصالحها.

فالكل يستعد لنمط جديد من العلاقة بين الدول والشعوب وأساليب مختلفة من المواجهات على المستوى الرسمي والخاص في الاقتصاد والتكنولوجيا والتصنيع الحربي والنظم والمعايير الاجتماعية والمعيشية.

من يريد أن يكون موجوداً أمام طاولة رسم معالم النظام الإقليمي والعالمي الجديد، عليه أن يمتلك القدرات والطاقات والفرص التي تمكنه من ذلك، وهذا كان بين أهم شعارات وأهداف جهاز الاستخبارات التركية في العقدين الأخيرين.

إجماع آخر في صفوف الكثير من الأتراك على أن المرحلة الانتقالية الجديدة في حياة بلادهم بدأت في صيف 2016 وبعد المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قادتها مجموعة " الكيان الموازي"، والتي فتحت الأبواب أمام جهاز الاستخبارات التركي ليعيد تشكيل نفسه استعدادا لانطلاقة مغايرة في التعامل مع مسائل الداخل والخارج، تحت عنوان عريض يمكّن تركيا، التي تمتلك هذا العمق الاستراتيجي في الشرق الأوسط وشرق المتوسط وآسيا وأوروبا وأفريقيا، من الالتحاق بموكب التنافس على الموقع والدور في مجالات التصنيع والتكنولوجيا والبحث العلمي لجمع المعلومات وإعداد الدراسات وتسهيل مهام القيادات السياسية والعسكرية والأمنية وهي تتخذ قراراتها.

يردد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد تدشين المبنى الجديد للاستخبارات تحت تسمية القلعة قبل 4 سنوات في العاصمة التركية، أنه بفضل الإنجازات التي حققها جهاز الاستخبارات التركي، أصبحنا نمتلك القدرة على خدمة مصالحنا في أي مكان من العالم، من دون الحاجة إلى إذن أو مساعدة من أية دولة أخرى.

الأمور تذهب أبعد من ذلك هذه المرة، فمن بين الثمار التي حصدتها تركيا في العقد الأخير داخل جهاز الاستخبارات الذي تولاه هاكان فيدان لسنوات وابراهيم قالن في العام المنصرم، التأسيس لأكاديمية الاستخبارات الوطنية، وهي أكاديمية تابعة لجهاز المخابرات التركية "MIT"، والتي أعلنت عن انطلاق عملية استقبال المرشحين اعتبارا من مطلع شهر حزيران الحالي في مجال تخصصات الدراسات العليا.

وسعت تركيا في العقد الأخير من نطاق زيادة عدد الخبراء والدارسين في المجالات العلمية المتخصصة، وهناك العديد من الأكاديميات تنشط في مجالات مختلفة، ولم لا تكون هناك أكاديمية تابعة لجهاز الاستخبارات أيضا؟

تعلن أكاديمية الاستخبارات التركية، وهي تابعة لجهاز المخابرات التركية "MIT"، عن انطلاق عملية استقبال المرشحين اعتبارا من مطلع شهر حزيران الحالي في مجال تخصصات الدراسات العليا.

أعلن رئيس الأكاديمية البرفسور طلحة كوسا، في اجتماع عقده مع ممثلي وسائل الإعلام التركية في أواخر أيار المنصرم، أنه تم إنشاء هذه المؤسسة العلمية لتقييم التراكم الاستخباراتي الواسع بما يتماشى مع قرن رؤية تركيا. لكن أهداف هذه الخطوة هي أبعد من ذلك بكثير ومن بينها: تأهيل الكوادر الأكاديمية في المجالات العلمية والبحثية الحديثة والمتطورة. وتعزيز قدرات جهاز الاستخبارات من خلال رفده بالكوادر العلمية لجمع المعلومات وتبويبها وتحليلها مع إعداد سيناريوهات الاحتمالات والاستنتاجات. والمساهمة في توفير الدراسات العلمية المتخصصة باللغات العالمية ووضعها بتصرف مركز القرار السياسي من خلال منصة جهاز الاستخبارات. وتأكيد حقيقة الدور التركي الصاعد في حقل الاستخبارات على ضوء عقود من التجارب والخبرات ومواكبة التطورات العلمية والفنية والتكنولوجيا الحديثة في مجال الطاقة والتطور السيبراني وعالم الفضاء والتجسس التجاري. وبناء نظام رصد ومتابعة وتحليل أكاديمي يحمي مصالح تركيا في الداخل والخارج. ورفع مستوى وقدرات الجهاز من الناحية العلمية والأكاديمية في مجال الاستخبارات، وإجراء البحوث والدراسات وجمع المعلومات الدقيقة التي تساهم في تقدير الموقف السياسي.

يردد رئيس الجهاز إبراهيم قالن أن الصراع على السلطة والظلم المنتشر في أكثر من مكان إلى جانب الأزمات المتفاقمة والتهديدات المتواصلة والمخاطر التي تتسبب بها التقنيات الجديدة، فكل ذلك أدى إلى خلق بيئة من عدم اليقين وانعدام الأمن.. المبادئ والقواعد التي من المفترض أن تشكل أساس النظام الدولي، تُنتهك وتتآكل كل يوم من قبل الجهات الفاعلة التي تشكل النظام الحالي.

يسهل الدخول إلى موقع الأكاديمية اكتشاف أن لا شروط محددة حول أعمار الراغبين في الالتحاق بهذه البرامج أو التمييز بين الرجال والنساء. بينما الكفاءة والقدرات والتجارب هي عامل مهم في الاختيار، إلى جانب اجتياز الامتحان الخطي والشفهي بنجاح والحصول على الموافقة الأمنية للتقدم إلى مكان حساس من هذا النوع.

ستفتح الأكاديمية أبوابها لطلاب الدراسات العليا من خلال أربعة برامج لنيل درجة الماجستير في دراسات أفريقيا وروسيا والقوقاز والتكنولوجيا الأمنية المتطورة داخل بنية معهد الاستخبارات والأمن في المرحلة الأولى، واستقبال 100طالب وطالبة يتقاسمون برامج الأبحاث والدراسات الإقليمية والهندسة الإلكترونية والأمن السيبراني ونظم جمع المعلومات، مع الاستفادة من آخر نتاج برامج الذكاء الاصطناعي.

الإضافة المميزة هنا هي تأسيس مدرسة اللغات الأجنبية التي تحتاجها تركيا في المرحلة المقبلة وبينها الصينية والأرمنية واليونانية والهندية.

غاب موضوع التأسيس لأكاديمية الاستخبارات التركية عن واجهة الأحداث بسبب أكثر من ملف داخلي وخارجي ساخن. كما أن رئيس الأكاديمية يحاول التركيز على أنها لن تكون في خدمة جهاز الاستخبارات التركي فقط، بل ستقدم العون والدعم اللازم لكبار مؤسسات القطاع الخاص الناشط منها خارج تركيا بهدف جمع المعلومات ووضع الدراسات أو التقارير العلمية التي تسهل مهامها، فإن الواقع يقول إنها خلال سنوات ستبدأ عملية التعاون والتنسيق مع أجهزة استخبارات الدول الصديقة في عمليات التدريب والتأهيل المشترك.

تحول جهاز الاستخبارات التركية مع الوقت إلى أحد أهم روافد مراكز القرار لتسهيل رسم سياساتها الداخلية والخارجية لتمكينه من إدارة الملفات التي تعني مصالح تركيا على المستويين الإقليمي والدولي. وواصل الجهاز صعوده بعد تولي فيدان مهام الرئاسة في العام 2018. ثم خلفه قالن في حزيران 2023، والذي قرر مواصلة عملية التحديث والتطوير وحيث كان آخرها قرار الإعلان عن إنشاء هذه الأكاديمية التي ستتبعها مفاجآت أخرى للرئيس الجديد الذي يمنحه أردوغان كامل ثقته.