عندما طلب المحاسب في مركز التسوق النظر في داخل حقيبتي الشخصية عند الخروج وجدت ذلك طلباً صادماً! فتحت الحقيبة من دون أن أفهم قصده. ألقى الموظف نظرةً سريعة ثم شكرني بابتسامة مصطنعة. حملت مشترياتي وخرجت ذاهلاً مما حصل. سألت فيما بعد صديقاً يعيش في فرنسا منذ مدةٍ طويلة فضحك وقال إن الحكومة تسمح للمتاجر الكبرى بتفتيش حقائب الزبائن عند الخروج للتأكد من أنهم لم يسرقوا شيئاً. لم تخفّف إجابة صديقي من صدمتي، بل زادتها. وقلت بيني وبين نفسي "وماذا لو سرق فقيرٌ تفاحةً أو قطعة جبنٍ وفاز بشيءٍ يأكله؟" هذا مما لا يجب أن يُلقى له بال في هذه البلاد الغنية. ثم أليس في هذا الأسلوب بالتفتيش اتهام مبطن لجميع الزبائن بالسرقة. وعجبت من قوانين الدولة التي تسهّل للشركات الكبرى إهانة المواطنين وتعجز عن إيجاد صيغةٍ أكثر لباقةً لإرساء السلامة بين الباعة والزبائن والتأكد من عدم حصول سرقةٍ وتعدّي. بل عجبت أن هناك بالفعل أشخاصاً يضطرون للسرقة كي يأكلوا في دولةٍ تعدّ من أغنى دول العالم.
ولكني وبمحض المصادفة شاهدت هذه الدولة نفسها تواجه بقسوة المواطنين الفقراء وذوي الدخول المنخفضة في مظاهراتٍ عابرة نظّموها من أجل زيادة الأجور أو تعديل قوانين مُجحفة؛ فرأيت العجب من حرص الدولة على حقوق الأغنياء واستخفافها بكرامة عامّة الشعب وتبرّمها باحتجاجاتهم. ففي تلك المظاهرة جاءت الشرطة بكلابها وعرباتها وأسلحتها البارزة وكأنها ذاهبة إلى ساحة معركة من أجل صدّ عدوانٍ خارجيّ.
انتقادات الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشيل أونفري الذي وصف عالم الغرب في أحد كتبه بأنه "شرهٌ للمال والذهب، قويٌ على الضعفاء ضعيفٌ أمام الأقوياء"
هاتان الواقعتان وغيرهما الكثير مما أعاين هنا في فرنسا تذكرني بما كنت قد عرفته قبل أن آتي إلى أوروبا عبر الاطّلاع على انتقادات الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشيل أونفري الذي وصف عالم الغرب في أحد كتبه بأنه "شرهٌ للمال والذهب، قويٌ على الضعفاء ضعيفٌ أمام الأقوياء". وإني لأجد مصداق هذا القول كيفما تحركت.
إذ مما تجدر ملاحظته هنا في أوروبا أن هناك حالة احتكار رهيبة حتى في المتاجر التي تبيع الغذائيات اليومية، وهو احتكار لا شك أن الدولة تساعد على حصوله، هذا إذا لم نفترض أنها متواطئةٌ فيه مع أصحاب الثروات والتجارات. فهنا لا توجد "دكاكين" بل شركات كبرى معروفة في كل بلد بحيث لو احتجت أن تشتري كيلو بطاطا أو رغيف خبز أو أوقية لحم مثلاً فكل ذلك تجده مجتمعاً في ماركت كبرى جمعت كل هذه الأشياء وغيرها الكثير في مكانٍ واحد ثم افتتحت لها فروعاً في كل البلد، بل في كل القارة الأوروبية وأحياناً عبر العالم. هنا لا يوجد "أبو عبدو" تشتري من عنده اللبن البلدي ومشتقات الحليب، ولا "أبو محمّد" الفوّال لتبتاع من عنده فطور الصباح، ولا "خضرجي" الحيّ الذي يُسعدك صباحاً ومساءً بالخضروات والفواكه الطازجة ولا يكاد يبيعك كيلو بندورة دون أن يسألك عن أخبار عائلتك فرداً فرداً! هنا في أوروبا كل شيءٍ موجود طازجاً أو معلّباً في مكانٍ واحدٍ يقيم على بيعه موظفون هم مجرد امتدادٍ للآلات التي يعملون عليها. في أوروبا يمكن أن تتسوق كل أشياء المنزل من الصباح حتى آخر الليل من دون أن تنطق بكلمةٍ واحدة سوى "مرحباً" و"إلى اللقاء!".
فرنسا تحديداً يقودها زعيمٌ كان بالأساس مدير بنك وأتى من عالم المال والأعمال، يرفض رفع الضرائب على الشركات الكبرى، ويتهمه عامّة الناس بأنه رئيس الأغنياء ويعيّرونه بأنه "فتى البنوك"
المجتمع سلبي ومقسّم، والتواصل الحقيقي نادرٌ بين فئات الناس لأنهم ببساطةٍ مستغنون عن بعضهم البعض. وكان مما لاحظت مراراً مظاهر ثورة الضعفاء والصامتين كلما سنحت لهم الفرصة. فطالما حصل وأن رأيت شاشات ماكينات سحب النقود مهشّمة أو معطّلة بالدهان "البخّاخ" من قبل أشخاصٍ يبدو أنه لا هدف لهم سوى الإضرار بالبنك بأي وسيلةٍ كانت. هذه بلاد يكره فيها الناس حصانة البنوك والشركات. لم لا؟ فهنا تقوم مهمّة الدولة أساساً على "حماية من يملكون ممن لا يملكون،" كما نظّر لهم آدم سميث قبل أكثر من قرنين من الزمان. كما أن فرنسا تحديداً يقودها زعيمٌ كان بالأساس مدير بنك وأتى من عالم المال والأعمال، يرفض رفع الضرائب على الشركات الكبرى، ويتهمه عامّة الناس بأنه رئيس الأغنياء ويعيّرونه بأنه "فتى البنوك".
مظاهر كثيرة أمرّ عليها وأستغرب لوجودها هنا مع أن بلادي ليست بلاداً غنية ولا خالية من التفاوت المادي بين الناس، بل وليست فيها دولة محترمة أبداً، ولكن البعد الذي أراني ألمسه مفقوداً هنا في أوروبا - رغم رسوخ المؤسسات وعراقة الدساتير - هو غياب الرأفة في النظم القائمة، واختلال موازين التعاملات البشرية، وإهمال النظر للإنسان بوصفه قبل كلّ شيء مجموعةً من المركّبات العاطفية والوجدانية التي تجعله جديراً بأقصى درجات الترفّق والمداراة بغضّ النظر عن كونه غنياً أم فقيراً، قوياً أم ضعيفاً.