كَثُر حديث عدة جهات سياسية في الفترة الأخيرة عن عزمها عقد مؤتمر وطني سوري، بموجب حساسية الوقت وضرورة المرحلة، وفق ادعاء تلك الجهات، كان آخرها ما أنجزه بعض السياسيين السوريين تحت مسمى "المؤتمر الوطني لاستعادة السيادة والقرار" بجنيف السويسرية (آب 2021)، وسبقتهم مساع مشابهة لما عُرف لاحقاً بـ "الجبهة الوطنية الديمقراطية" (جود) بدمشق السورية (آذار 2021).
لا شك بأن المؤتمر الوطني للسوريين هو الإطار السياسي الأنسب الذي يُمكن أن ينطلق منه إنقاذ سوريا، والتأسيس لمرحلة جديدة تضمن بناء سوريا واستعادة دورها وفعاليتها، إلا أن المؤتمر الوطني الذي يجب أن ينعقد فعلياً، لا بد أن ينطلق حقيقة من اتفاق بين القوى السورية الفاعلة دون تغييب أي تيار، بحيث يضمن ذلك وجود أصحاب الكفاءات العلمية، وعدم استبعاد الخبرات الوطنية والقوى الشبابية الفاعلة تحت أي ذريعة كانت.
لا يمكن التقليل من دور المؤتمر الوطني المأمول انعقاده ويجمع مختلف القوى والتيارات السورية، لكن دون أن تشارك فيه شخصيات وكيانات لا تملك حضوراً وازناً على الأرض وشعبية معقولة؛ تشفع لهم التفرد بتصدير مؤتمرات لا طائل منها سوى تضييع الوقت وبيع الوهم خلال الفترة الحالية في ظل عدم تقديم برامج عمل اعتبارية للمرحلة المقبلة.
هل يستطيع منظمو مؤتمرات الوقت الضائع، المبتعدون عن دعم خارجي وفق قولهم، والغائب عنهم أي ضامن دولي، من تقديم حل قابل للتنفيذ في محافظة درعا المنكوبة منذ سنوات؟
في ظل تدويل الملف السوري الذي بات أمراً لا مفر منه ولا يمكن الالتفاف عليه أو تجاهله كما تدعي بعض الجهات السياسية السورية، فمن المفترض أن يكون المجال المنتظر من "المؤتمر الوطني" يتمثل بإعداد خطط العمل التنفيذية التي تنطلق بعد تسوية سياسية شاملة عبر توافقات الدول الكبرى الفاعلة في الملف السوري، حيث لا بد من إعداد الوثائق السياسية والحقوقية والاقتصادية والاجتماعية، لتتفرع عنها أبرز المسائل التي تتصل بالحل السياسي وتنفيذه، طبيعة هيئة الحكم الانتقالي، والطرق البديلة لتنفيذ القرار الدولي 2254، تطبيق العدالة الانتقالية، وكذلك الفيدرالية واللامركزية الإدارية في الحالة السورية.
هل يستطيع منظمو مؤتمرات الوقت الضائع، المبتعدون عن دعم خارجي وفق قولهم، والغائب عنهم أي ضامن دولي، من تقديم حل قابل للتنفيذ في محافظة درعا المنكوبة منذ سنوات؟ هل يملكون وسيلة نافذة للوصول مع الأطراف القادرة على فرض حل هناك؟ -هذا سؤال واحد فقط لقياس القدرة الفعلية على الأرض لمنظمي مؤتمرات الوقت الضائع-.
ما هي الظروف الموجبة لتنظيم مؤتمراتهم، وأي قناعة راسخة تولدت لديهم حتى رأوا بأن مثل هذه المؤتمرات بوسعها أن تكون الجامعة المنتجة للحل بعد كل الفشل الذريع الذي تعرضوا له والآخرين من غير الحاضرين أيضاً، لطالما سلكوا نفس الطريق وبالأدوات المُنهكة ذاتها. لعل القيام بتجربة فاشلة وتوقع نتائج مختلفة، هو ضرب من الجنون.
ابتداءً من "جود" حيث سعت من خلاله بعض الأطراف السياسية المنعزلة ضمن قوقعة "معارضة الداخل" السياسية العاملة على الأرض، والتي عبّرت عن رغبتها بأن تكون نواة مؤتمر وطني ينطلق من دمشق، وصولاً إلى "استعادة السيادة والقرار" في جنيف، وغيره من دعوات أطراف أخرى لمؤتمر وطني، فقد فشل جميع هؤلاء وسيفشل غيرهم إذا ما بقوا على نهج ادعاء تمثيل الصوت الديمقراطي لوحدهم، وتغييب أصوات أخرى بحجة الارتهان الخارجي والتبعية لمال سياسي. بمقابل تقديم وثائق وأوراق عمل تحمل مشاريع "وطنية"، لا يمكن أن ينفذ منها شيء، بخاصة وإن كانت تلك الأوراق والوثائق أُعيد استنساخها وتكرارها من مؤتمرات سابقة.
هناك الكثير من الأصدقاء في الأطر السياسية المشار إليها مباشرة أو إيحاء، في هذا المقال، تجمع بيننا عدة مشتركات، إلا أن الخطوات الخاطئة لا يُمكن أن يبنى عليها مشروع وطني مثمر، ولا يمكن التغافل عن توجيه أصابع اللوم إلى مكامن الخطأ في أي دعوة لمؤتمرات تسعى من حيث يعلم أو لا يعلم القائمون عليها، لتكريس الإقصاء بصورة محدثة، أو تعميم الاستعصاء حتى بين بعض القوى المتشابهة فكرياً وسلوكياً.
نظرياً فإن الحديث عن حل سوري-سوري هو أمر منطقي وواجب الحدوث للخلاص من أزمة الاستعصاء السورية، لكن الاعتبار بأن هذه الخطوة فقط هي من تنقل السوريين بلمسة "العصا السحرية" إلى ضفة الخلاص دون الاكتراث بتأثير التوافقات الدولية بشكل أساسي هو خيال لا قيمة له، يثير السخرية من ضحالة فكر سياسي اعتاد الإقصاء من أطراف سياسية أخرى ليمارسه بشكل أشد وأعم من خلال استبعاد قوى سورية لا يمكن تجاهلها إلا بسبب الخلافات واحترابات تقاسم النفوذ في تيارات أخرى سابقة جمعتهم بمنظمي مؤتمرات الوقت الضائع.
من لا يستطيع الحوار مع أطراف سورية من أجل قضية تشمل كل السوريين والمضي نحو مشروع جامع، وطي الخلافات وإبقاء الاختلافات الصحية، لا يمكن الوثوق بإمكانية تحقيقه أي منجز على صعيد المؤتمر الوطني الديمقراطي
دون قراءة المشهد السياسي السوري بصورته الكاملة، ومراعاة تأثير التوافقات الدولية وسبل التسوية السياسية من خلالها، مع ضمان حضور كل القوى السورية في التأسيس لمؤتمر وطني حقيقي وفاعل، لا يمكن التعويل على كل الخطوات التي تسعى لكسب بعض التغطيات الإعلامية، وكذلك إعادة توجيه الأضواء نحو مشاريع قديمة غير نافعة يتم تلميعها ببعض الأسماء الجديدة والعناوين الكبيرة الرنانة. ومن لا يستطيع الحوار مع أطراف سورية من أجل قضية تشمل كل السوريين والمضي نحو مشروع جامع، وطي الخلافات وإبقاء الاختلافات الصحية، لا يمكن الوثوق بإمكانية تحقيقه أي منجز على صعيد المؤتمر الوطني الديمقراطي.
هل ابتعدت التجارب السابقة عن ضرورة تجسيد الإرادة السورية الخالصة، كما يدعي حالياً منظمو مؤتمرات الوقت الضائع؟ رغم أن العديد منهم شاركوا سابقاً في العديد من تلك التجارب وبالأدوات ذاتها، لكن النتائج كانت صفرية وعلى ما يبدو ستبقى كذلك.
كيف يمكن تحقيق استراتيجية وطنية ترتكز على القرارات الأممية المتعلقة بسوريا، تستطيع إلزام مختلف الجهات المتنازعة في سوريا، والتوجه لبناء مشترك لدولة ذات سيادة واستقلال، إذا لم يكن الداعون لمؤتمرات الوقت الضائع؛ قادرين أو راغبين "لا فرق" على جمع كل التيارات والقوى على اختلاف تموضعاتها والتقائها ضمن إطار "المؤتمر الوطني"، كيف يمكن ذلك أيضاً وهم غير عابئين بفشل كل التجارب طوال العشر سنوات وعدم التعلم منها، بل وحتى عدم الاكتراث بوجود اعترافات إقليمية/دولية بمخرجات مؤتمراتهم والعمل على تنفيذها لاحقاً واعتمادها.