في البداية في ذروة المواجهة بين الاحتلال والمقاومة الفلسطينية في غزة أطلقت الولايات المتحدة التصريحات الكلاسيكية في مثل هذه المناسبات فعبر الرئيس الأميركي ووزير خارجيته عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، في الوقت الذي تجاهلت فيه عبر تلك التصريحات الضحايا الفلسطينيين من الأطفال والنساء والرجال المدنيين، وحين اشتدت المواجهة وبدت إسرائيل بحاجة لعرابتها الكبرى متمثلة بالولايات المتحدة من أجل إنزالها عن الشجرة بعد أن خرجت المواجهة عن سيطرتها وعن طبيعة المواجهات التي اعتادت عليها مع الفلسطينيين، بدأ الخطاب الأميركي تعلوه بعض التغيرات الطفيفة فيما يخص الفلسطينيين.
أتى من ضمن تصريحات البيت الأبيض بأن القدس الشرقية قضية مطروحة للنقاش ضمن مسار السلام، كذلك التأكيد على أن المساعدات الإنسانية للفلسطينيين لن تتأثر بسبب ما يحدث، ثم عاد البيت الأبيض لوصف الخسائر بالأرواح في الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي بالمروع، وراح الخطاب الأميركي المنحاز للطرف الإسرائيلي دائما يحاول على غير عادته المساواة بين الضحية والجلاد في نقلة طفيفة تعبر عن تغير سياسات الولايات المتحدة ضمن إدارة بايدن عن سابقتها في عهد ترامب، بالإضافة لتأثر تلك التصريحات لضغط بعض قيادات الحزب الديمقراطي على إدارة بايدن لوقف عمليات التهجير غير القانونية في القدس وحي الشيخ جراح.
لم تكن القضية الفلسطينية ضمن أولويات الخارجية الأميركية الملحة، لكن مجهودات المقاومة الفلسطينية التي نجحت في إعادة الزخم العالمي للقضية الفلسطينية لفتت أنظار الولايات المتحدة لتكريس المجهودات من أجل إعادة التدخل، فتم الإعلان عن زيارة لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى القدس ورام الله والقاهرة وعمان في الفترة بين 24 إلى 27 أيار/ مايو، حيث تمت الزيارة إلى رام الله في أجواء شعبية غير مرحبة بها، حيث حذرت جهات مختلفة من استعادة الولايات المتحدة زمام المبادرة من أجل منح وقت أطول لدولة الاحتلال عن طريق تكرار الأطروحات المهترئة نفسها مثل طرح حل الدولتين الذي أثبت فشله في حين أثبتت الولايات المتحدة استحالة لعبها دور الوسيط النزيه في تلك التسوية.
تجاهلت الولايات المتحدة لفترة طويلة الممثلين الفلسطينيين الذين أفرزتهم اتفاقية أوسلو
رتب بلينكن في مؤتمره الصحافي مع نتنياهو يوم الثلاثاء 25 أيار/ مايو أسباب زيارته للمنطقة حيث تصدر الحفاظ على أمن إسرائيل أولها ثم أتى ضمان الاستقرار في الضفة وغزة وإعادة إعمار غزة ثانيها، كذلك إعادة بناء العلاقات مع السلطة فيما مثل هذا الطرح إعادة تدوير للأسطوانة الكلاسيكية الأميركية نفسها في أعقاب الحروب السابقة، لكن بدا واضحا إهمال الولايات المتحدة للعديد من العوامل الجديدة في هذا الصراع متمثلة بالوحدة النضالية بين أجزاء فلسطين التاريخية والشتات، ورفع سقف المطالب الوطنية للأجيال الجديدة التي عبرت بشكل واضح عن غضبها من مسار التفاوض ومن حالة التنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال الذي شكل بيئة أمنية حاضنة ومحفزة على الاستيطان في الضفة.
تجاهلت الولايات المتحدة لفترة طويلة الممثلين الفلسطينيين الذين أفرزتهم اتفاقية أوسلو، وعمدت إلى اتخاذ خطوات مساندة للاحتلال تتنافر مع قرارات المسار التفاوضي الذي أرجأ تلك القضايا لقضايا الحل النهائي، ففي فترة ترامب تم الإسراع في عمليات تهويد القدس وشرعنة الاحتلال الكامل للقدس والاعتراف بها كعاصمة لدولة الاحتلال بنقل السفارة الأميركية لها ضمن خطوات استفزازية استثنت محور التفاوض القديم السلطة الفلسطينية ومصر والأردن، لصالح إقحام المحور الخليجي المتمثل بالإمارات العربية التي باركت بتحالفها مع دولة الاحتلال صفقة القرن التصفوية للقضية الفلسطينية.
عمليا، ما فعلته المقاومة هو أنها وضعت كثيرا من الأوراق الرابحة في يد الساسة الفلسطينيين، لكن الأصوات التي علت برفض أي احتواء أميركي للغضب الشعبي الفلسطيني وعدم العودة للتعامل مع الشعب الفلسطيني بأنه يمكن إسكاته بقيود ذهبية، حيث أثبتت تلك الطريقة فشلها على مدار عقدين ونصف، فإغراق الشارع الفلسطيني بالامتيازات الرأسمالية وطرح خطط السلام الاقتصادي التي جعلت الاقتصاد الفلسطيني مرتبطا بشكل وثيق ومباشر باقتصاد دولة الاحتلال أصبحت طريقة تخدير سياسي مفضوحة للأطراف الدولية وللفلسطينيين.
محاولة إحياء مبادرة حل الدولتين أو خطط السلام الاقتصادي يعكس خللا كبيرا في استثمار ما قدمته المقاومة الفلسطينية في المواجهة ضمن عملية سيف القدس، فالسلطة الفلسطينية المهمشة دوليا ومن الطرف الأميركي خلال فترة ترامب سارعت لالتقاط دعوة بلينكن في حين أثبتت الحراكات داخل فلسطين التاريخية أن السلطة الفلسطينية تعاني أزمة تمثيل وشرعية حيث بدا واضحا وجود شبه إجماع شعبي على مسار المقاومة في غزة لا مسار المساومة والتسوية السياسية في رام الله.
التقاط السلطة الفلسطينية للجزرة الأميركية بهذه السرعة سيجعلها عرضة من جديد لغضب الشارع الفلسطيني الذي خرج غاضبا مما أفرزته سنوات التسوية السياسية من عمليات تهويد للقدس ومصادرة الأراضي وعمليات الاستيطان الواسعة في الضفة الغربية، فلطالما سارعت السلطة الفلسطينية لقطف ثمرة النضال الفلسطيني على شكل امتيازات لطبقة سياسية فيها ضمن رؤية انتفاعية تقوم على سياسة برغماتية تخدم مصالحها بشكل منقطع عن تاريخ ومستقبل النضال الفلسطيني والذي تمثل أهم محركاته عملية النضال من أجل التحرر.
هرولة السلطة الفلسطينية والأطراف الدولية لمسار التسوية من جديد ما هو إلا تعبير عن الطموحات المدجنة التي تعيشها سلطة أوسلو، حيث تقزمت مشاريعها الوطنية من فلسطين حرة من البحر إلى النهر قبل مسار التفاوض لاستجداء شرعية وانتباه وقطف ثمار مواجهة لم تخضها وإنما خاضتها المقاومة، في حين هي أسرعت لقطف ثمارها السياسية بشكل غير مخطط وضمن سياق انقسام الشرعية وعدم مراعاة لاستفتاء الشارع الغاضب الذي تعد غضبته اقتراع على شرعية المقاومة.
الفلسطيني الذي التف حول المقاومة من رأس الناقورة إلى أم الرشراش ومن البحر إلى النهر وفي الشتات لم يخرج إلى الشارع من أجل عودة المسار السياسي المحبط والذي يمنح دولة الاحتلال كثيرا من الوقت لمصادرة حقوق الفلسطينيين والتغول عليهم بالاستيطان الذي ينهش في أراضي الضفة، فإعطاء الفرصة لدولة الاحتلال لمحاصرة المقاومة الشعبية في الضفة وأراضي 48 واستهداف المقاومة في غزة عبر استعادة مسار التسوية يعد إجهاضا لإنجازات المقاومة خلال المواجهة الأخيرة وإفراغ لتلك المواجهة من معناها وأهدافها التي تمثلت باستعادة وحدة النضال الفلسطيني وتصويب مسار المقاومة نحو القدس التي سهل مسار التسوية من عملية تهويدها.
محاولة الولايات المتحدة الالتفاف على جذوة المقاومة الشعبية التي انطلقت في الضفة الغربية، تنطلق من إدراك لأهمية الحراك المقاوم في الضفة في حال تم البناء عليه لأنها الأقدر على التأثير في كيان الاحتلال من خلال الاحتكاك اليومي مع الاحتلال بما تشكله عمليات المقاومة الشعبية من بيئة طاردة للاستيطان، كذلك تسعى الولايات المتحدة بتحركها السريع لاحتواء غضب فلسطينيي الـ48 حتى لا تتحول غضبتهم لعملية مقاومة شعبية مستمرة تشكل بيئة طاردة للإسرائيليين في مدن الداخل المختلطة.
بينما السلطة الفلسطينية بما تعيشه من أزمة تمثيل كذلك أزمة إفلاس سياسي ووطني وعلى مستوى المقاومة تعد الطرف الأمثل الذي سيحقق آمال دولة الاحتلال وحليفها الأميركي وحلفائها بالمنطقة من أجل إعادة تأهيلها كممثل سياسي للفلسطينيين على الساحة الدولية مما سيعطي الوقت الأطول للاحتلال لإعادة التقاط أنفاسه ومحاصرة المقاومة بشقيها الشعبي والعسكري، فضمن الواقع الحالي للسلطة الفلسطينية وتنافسها السياسي وانقسامها مع محور المقاومة في غزة تشكل تحركاتها السياسية أكبر أشكال الاستفزاز للشارع الفلسطيني الذي عقد آمالا كبيرة على ما أنجزته المقاومة في المواجهة الأخيرة.
من الضرورة أن يجتمع الساسة الفلسطينيون لدراسة مطالب الشعب الفلسطيني الذي بدا صارما في اقتراعه لخيار مقاومة الاحتلال كأداة وحيدة ذات جدوى
أمام كل التحركات الدولية السابقة والتي يضاف إليها محاولة تأهيل حركة حماس دوليا حيث التلويح عبر أطراف أوروبية بإمكانية قبول حماس كطرف لا مهرب من قبوله في عملية التفاوض كونها فاعلا غير رسمي في هذا المسار، يكون من الضرورة أن يجتمع الساسة الفلسطينيون لدراسة مطالب الشعب الفلسطيني الذي بدا صارما في اقتراعه لخيار مقاومة الاحتلال كأداة وحيدة ذات جدوى، وكي يتم تحجيم مسار التصفية العربي الصهيوليبرالي للقضية الفلسطينية، وحتى لا تزل حركة حماس إلى المسار السياسي الذي تنبذه الجماهير الفلسطينية التي التفت حول المقاومة وساندتها شعبيا، وكي لا يذهب الانقسام الفلسطيني السياسي الداخلي إنجازات المقاومة أدراج الرياح، فاستمرار السلطة الفلسطينية لتجاهل شرعية شركائها السياسيين والوطنيين سيمنحها لا شرعية فعلية على الساحة حيث تتقلص مساحة تمثيلها للشارع الفلسطيني.