أثارت إيران الأسبوع الماضي أو للدقة افتعلت أزمة سياسية وإعلامية مع الرئيس رجب طيب أردوغان وتركيا بذريعة إلقاء الرئيس أبيات شعرية على هامش مشاركته في العرض العسكري المهيب الذي أقامته أذربيجان احتفالاً بانتصارها الصريح على أرمينيا، ونجاحها في تحرير أراضيها بما فيها إقليم قره باغ بعد احتلال أرمني استمر ثلاثين عاماً تقريباً.
أبيات الشعر التي ألقاها الرئيس أردوغان شائعة جداً وتتردد كثيراً في وسائل الإعلام والاحتفالات الوطنية والمنتديات الثقافية والفكرية في أذربيجان
الرئيس أردوغان ألقى أبياتاً شعرية تتعلق بوحدة الشعب الأذري على جانبي نهر آراس الذي يمتد من تركيا إلى إيران مروراً بأرمينيا وأذربيجان، اعتبرتها طهران تهديداً لوحدتها وانتقاصاً من سلامة أراضيها، وردّت بعنف عبر إعلامها المجند والموجه، كما في أي نظام استبدادي موصوف وحتى عبر قناعها الدبلوماسي المفترض أنه "إصلاحي" وزير الخارجية جواد ظريف.
أبيات الشعر التي ألقاها الرئيس أردوغان شائعة جداً وتتردد كثيراً في وسائل الإعلام والاحتفالات الوطنية والمنتديات الثقافية والفكرية في أذربيجان، والمناسبة التي ألقيت فيها كانت محددة أصلاً وتتعلق بتحرير قره باغ من الاحتلال الأرمني والدلالة جلية وواضحة أيضاً وتتعلق بدحر الاحتلال وترسيخ وحدة الشعب الأذري بما في ذلك إعادة وصل إقليم ناختشفان ذاتي الحكم بالوطن الأم.
ردّ الفعل الإيراني بدا مفاجئاً نسبياً وغير مفهوم، ولكن فقط لمن لا يعرف إيران جيداً، خاصة مع الانخراط المتسرّع لجواد ظريف الإصلاحي والدبلوماسي في الحملة الإعلامية للدولة الموازية والعميقة رغم أن المنطق يقول بتبنيه خطابا مناقضا ومختلفا عنها.
لفهم خلفيات الموقف الإيراني لا بد من الإشارة أولاً إلى أن طبائع الاستبداد تقتضي افتعال الأزمات بشكل دائم لشد العصب الوطني من ناحية، والتغطية على المشاكل والأزمات الداخلية من ناحية أخرى.
من هنا يمكن فهم تجنّد الإعلام الإيراني الرسمي بالكامل لصالح الحملة ضد تركيا وحتى وسائل الإعلام المستقلة وهي قليلة على أي حال اضطرت لمجاراة الحملة المتشنجة والمسعورة وغير المستندة إلى حيثيات وجيهة، ولكنها قدمت من جهة أخرى معطيات مهمة متعلقة بحقيقة الموقف الإيراني من تركيا المفتقد إلى الودّ والمنطلق دائماً من سوء النية والهواجس والأوهام غير الواقعية.
كشفت الحملة الغيظ والغيرة والحسد من حضور الرئيس أردوغان للعرض العسكري الأذري الذي أكد مكانته شخصياً ومكانة بلاده المرموقة بموازاة غياب وتهميش إيران التي تعتبر أو تتوهم نفسها جارة أقرب إلى أذربيجان جغرافياً ومذهبياً أيضاً.
فضحت الحملة أيضاً جوهر الموقف الإيراني من الحرب الأذرية الأرمنية الأخيرة، حيث بدت طهران مترددة متلعثمة، وحاولت أن تمسك العصا من المنتصف بالحديث عن الحقوق الأذرية، ورفض الحلول العسكرية رغم مضي عشرات السنين على احتلال أرمينيا لخمس أراضي أذرية. والحقيقة أن طهران لم تتمنى وتحبذ الانتصار الأذري الصريح، الذي غيّر موازين القوى في المنطقة لصالح باكو وأنقرة أيضاً، باعتبارها شريكة في الانتصار سياسياً وإعلامياً ومعنوياً وعسكرياً بالطبع بعد حسم أسلحتها التكنولوجية المتطورة للمعركة منذ أيامها الأولى، كما أقرّ منذ أيام رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان.
التشنج الإيراني فضح كذلك الانزعاج من الحضور التركي في منطقة القوقاز بشكل عام في مقابل انحسار وتآكل الدور الإيراني، خاصة أن اتفاق وقف إطلاق النار – اتفاق الاستسلام الأرمني – تم أساساً بتفاهم تركي روسي مع عمل ثنائي مشترك لمراقبة تنفيذ الاتفاق.
أما في يخص جواد ظريف فلا أعتقد أنه مقتنع بما كتب، مستخدماً لغة حادة وغير دبلوماسية تجاه الرئيس أردوغان وتركيا، وهو سعى لنفاق ومهادنة حكام إيران الحقيقيين وربما لإثبات وطنيته التي تتعرض للتشكيك دائماً وتحديداً بعد مواقفه الأخيرة من طريقة الردّ على اغتيال العالم النووي محسن فخري زادة.
ردّ الفعل التركي على الحملة الإيرانية جاء رسمياً هادئاً وعقلانياً مع حرص على إبقاء الأزمة "المفتعلة" في السياق السياسي والدبلوماسي
وثمة أمر نفسي لا يقل أهمية عما سبق، حيث تتشبه بعض القيادات في لحظات ضعفها بأعدائها الأقوياء. ومن هنا بدا وزير الخارجية الإيراني بمسارعته إلى الكتابة على تويتر بدلاً من اتباع القنوات الدبلوماسية المعتادة، وكأنه يقلّد عدوه الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يتعرض للانتقاد دائماً بسبب استخدامه المنصة للتعبير عن مواقفه السياسية.
ردّ الفعل التركي على الحملة الإيرانية جاء رسمياً هادئاً وعقلانياً مع حرص على إبقاء الأزمة "المفتعلة" في السياق السياسي والدبلوماسي المباشر بين الحكومتين، حيث لا إعلام مجنّد في تركيا الديموقراطية، كما في الأنظمة الاستبدادية، مع رفض التجاوز بحق الرئيس أردوغان طبعاً، والتذكير بالمواقف التركية المسؤولة والحكيمة من إيران لجهة رفض الحصار أو الانخراط في حملات عدائية ضدها، والتمسك بالشرعية الدولية لحلّ الأزمات معها، ورغم الخلافات في ملفات أخرى والسياسات الإيرانية الطائفية الموتورة والدموية في سوريا والعراق والمنطقة والحملات الإعلامية الموجهة ضد تركيا إلا أن هذه الأخيرة تصرفت دوماً بمسؤولية وهدوء وعقلانية، وسعت للتمسك بقواعد بحسن الجوار والمصالح المشتركة بين البلدين.
مع ذلك يبدو الإعلان التركي لافتاً جداً عن اعتقال شبكة تابعة للمخابرات الإيرانية على علاقة بالعالم السفلي وعصابات تجارة المخدرات قامت باختطاف أحد المعارضين - تشرين أول/ أكتوبر الماضي - ونقله من تركيا إلى إيران بشكل غير شرعي أو قانوني تماماً، كما فعلت في اغتيال مسعود ورد نجاتي مولوي "خاشقجي الإيراني" بإسطنبول العام الماضي، علماً أن القضايا منظورة أمام المحاكم التركية والنيابة العامة المختصة دون إثارة ضجة أو إحداث أزمة مع إيران، ولكن أيضاً دون التفريط بالمسار القضائي لتحقيق العدالة ومعاقبة المتهمين والدفاع عن السيادة والأمن والاستقرار في البلد.
عموماً تراجعت إيران بسرعة وخلال أيام عن موقفها نظراً لأنها مخطئة، حيث لا قضية أساساً أو سبباً وجيهاً لافتعال الأزمة، خاصة أنها بحاجة لتركيا والعكس ليس صحيحاً، وربما ظن مطلقوا الحملة أنهم حققوا أهدافهم الفئوية والضيقة. وفي كل الأحوال أظهرت الأزمة المفتعلة الفارق الهائل بين البلدين وعلى كل المستويات، حيث إن تركيا الديموقراطية التي لا تملك إعلاام مجنّدا وموجّها تتصرف بمسؤولية وفق القواعد الدبلوماسية والحرص على علاقات حسن الجوار، كما السلم والاستقرار في الإقليم. أما إيران المستبدة والمتوترة والمتشنجة والمسكونة بالهواجس في لحظات ضعفها وأزماتها وتراجعها فتعي جيداً رغم سياسة الغطرسة والصوت العالي أنها لا تستطيع معاداة تركيا أو الاستغناء عنها في ظل علاقاتها المتوترة مع معظم دول الإقليم والمنطقة والعالم بشكل عام.