بات واضحا أن المستقبل الأوروبي السياسي سوف تكون الأغلبية فيه لأحزاب اليمين واليمين المتطرف، بعد تراجع أحزاب الوسط واليسار وصعود اليمين في أكثر من دولة، أو بعد تقارب نتائجهما في دول أخرى، وذلك إثر عقود من شبه استئثار لأحزاب الوسط واليسار للسلطة في دول الاتحاد، جعلت منها صاحبة قرارات سياسية واقتصادية واجتماعية يعتقد الكثير من الأوروبيين أنها عملت على تغيير نمط الحياة المعتاد في بلادهم ما يلزمه تغيير في آليات السلطة، واستبدال أدواتها المنفذة.
وبالطبع فإنه لا يخفى أن كثيرا من الأوربيين باتوا يحملون اللاجئين مسؤولية ما يحدث في بلادهم ويلقون باللوم على سياسات بلدانهم التي فتحت أبوابها للاجئين واستقبلتهم ومنحتهم حياة محترمة (سكن ومرتبات وتأمين صحي وضمان شيخوخة وتعليم مجاني لأولادهم) من ضمن الضرائب التي يدفعها المواطن الأوروبي. والتي يعفى منها اللاجئ إلى أن يتعلم اللغة ويدخل سوق العمل، وهو ما لا يستطيع كثر من اللاجئين فعله بسبب التقدم في السن أولا، وثانيا بسبب منظومة ذهنية فاسدة تبيح له أن يعمل في الأسود، أو (العمل غير المصرح به رسميا)، أو أن يبقى حياته كلها يعيش على راتب المساعدات دون الانخراط في سوق العمل ودون أن يتعب نفسه بتعلم اللغة إلا ما يساعده على الحياة اليومية البسيطة، ما يعني أن الاندماج في المجتمع الجديد ليس من ضمن مخططات حياته. وهو ما يحدث منذ موجات اللجوء في نهايات القرن الماضي، خصوصا في الدول الإسكندنافية ما جعل هذه الدول تصدر قرارات بإعادة الكثير من اللاجئين إلى بلادهم بعد زوال الأسباب التي دفعتهم للهرب واللجوء، وتحديدا من منهم لم يتمكن من الاندماج ولم يدخل سوق العمل ولم يدفع ضرائب ولم يتعلم اللغة.
أوروبا شهدت موجات لجوء بأعداد غير مسبوقة، تمت بكل الطرق الممكنة الشرعية وغير الشرعية، وضمت جنسيات من كل الدول العربية ودول أفريقيا وآسيا
ومع بداية العشرية الثانية من القرن الحالي، ومع ما حصل في الربيع العربي ودخول كثير من دوله في حروب طاحنة وتعرض الشعوب لعنف متعدد الجهات، فإن أوروبا شهدت موجات لجوء بأعداد غير مسبوقة، تمت بكل الطرق الممكنة الشرعية وغير الشرعية، وضمت جنسيات من كل الدول العربية ودول أفريقيا وآسيا، وهي شعوب الدول الخاضعة لأنظمة استبدادية، أو فاشلة أو فاسدة أو مجرمة. ومن الطبيعي مع ما حدث في سوريا أن يكون السوريون في مقدمة اللاجئين، لا سيما من اعتمدوا، وما زالوا، طرق الهجرة غير الشرعية، بعد أن ضاقت بهم الدول القريبة والعربية التي استضافتهم.
ليس من العدل بمكان اعتبار اللاجئين كتلة واحدة، فهم مختلفو الثقافات ومختلفو الانتماءات، وهم متنوعون جدا ككل المجموعات البشرية المقيمة أو اللاجئة، لكن لا يتم التركيز في العادة على السياق الطبيعي لسلوك اللاجئين، فهو يعتبر أمرا طبيعيا لا يسترعي الانتباه، في حين يصبح السلوك غير المعتاد في المجتمعات هو المركز، وهذا ما يحصل في أوروبا مع اللاجئين، المسلمين على وجه الخصوص، وهنا أيضا من غير الإنصاف القول إن سلوكا كهذا خاصا بالسوريين، أقصد الصدمة الحضارية التي واجهها الكثير من اللاجئين القادمين من دول مسلمة ومجتمعات تعتنق ثقافة مختلفة كليا عن ثقافة البلد المضيف التي سنت قوانين قديمة لحماية مجتمعاتها، وطبقتها على الجميع دون استثناء. ونعرف جميعا كيف تستغل مجموعات الإسلام المؤدلج هذه الاختلافات وتحرض اللاجئين المصدومين على التظاهر والمطالبة بسن قوانين مناهضة لثقافة المجتمعات الجديدة، ظنا منهم أن هذا يحمي أسرهم وعاداتهم ودينهم. طبعا لن تتاح لليمين المتطرف فرصة ليثبت وجهة نظره أكثر من مطالبة لاجئين مسلمين بقوانين إسلامية في مجتمع علماني القوانين ومسيحي الثقافة؛ وأكثر أيضا من الدعم العلني للحركات الجهادية من قبل أئمة المساجد في الغرب، الحركات التي تبنت كل العمليات الإرهابية في العالم وعززت الإسلاموفوبيا لدى العالم الغربي بشكل لم تعد تنفع معه كل محاولات بناء الثقة بين العالمين المسيحي الغربي والإسلامي المشرقي.
كانت الأزمات تزداد والتذمر الشعبي يزداد واليمين يتلقى ويستفيد من الفشل الذي تعانيه الحكومات في حل معظم الأزمات المعيشية
لكن أيضا أن يتم وضع كل ثقل صعود اليمين على مسألة اللجوء والهجرة هو بمثابة تصدير الأزمات الكبرى والتخلص منها عبر تحميلها للطرف الأضعف. فمند عام ٢٠٠٨ مع بدء الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى عانت الشعوب الأوروبية من أزمات معيشية لم تعتد عليها منذ زمن، ولم تتمكن حكومات الوسط واليسار من التعامل معها بحنكة، وشهدت شوارع العواصم والمدن الأوروبية احتجاجات واسعة لم يغب العنف عنها، ومع رسوخ الأزمة الاقتصادية العالمية بدأت بوادر الربيع العربي تظهر، ودخل العالم في مرحلة جديدة وأخبار ساخنة طغت على أخبار الأزمة المعيشية الغربية، ومع كل ما حدث في بلاد الربيع العربي، عادت دورة إنتاج السلاح وتجارته لتخدم اقتصاد الدول المنتجة له عبر تصديره إلى ليبيا وسوريا واليمن، بؤر الحروب والصراعات في دول الربيع العربي. وطبعا لن ننسى الدول الأفريقية والآسيوية التي تم نسيان ما يحدث فيها مع الربيع العربي، لكن ذلك لم يغير من الوضع المعيشي للمواطن الغربي، فصناعة السلاح وتجارته وربحه لا تدخل في دورة الاقتصاد، كانت الأزمات تزداد والتذمر الشعبي يزداد واليمين يتلقى ويستفيد من الفشل الذي تعانيه الحكومات في حل معظم الأزمات المعيشية، والتي ترافقت مع طفرة مهولة في الحريات الجنسية والعبور الجندري الذي جعل العامة المسيحية المتدينة شديدة الغضب وشديدة الخوف من الخلل الكبير الذي حدث في البديهيات التي تربت عليها وخطره على مفهوم العائلة والثوابت الأسرية المقدسة في التعاليم المسيحية.
ولم تكد الشعوب تعتاد على حياة التقشف الطارئ على حياتها بعد ٢٠٠٨ حتى ابتليت كلها بفايروس كوفيد ١٩، والذي أعاد اقتصاد العالم إلى مربع الخطر، وقضى تماما على المشاريع الاستثمارية الصغيرة والمتوسطة لصالح الشركات الاستهلاكية الكبرى العابرة للأمكنة، وكذلك شركات الأدوية التي استخدمت البشر كفئران تجارب في محاولاتها إيجاد علاج ولقاحات مضادة للفيروس. وكما هو معروف فقد استخدمت الحكومات كل ما في يدها من سلطة قمعية لفرض اللقاح ولفرض حظر التجول، ما جعل الاستبداد السياسي المترافق مع فساد وفشل اقتصادي يتجلى لأول مرة في العصر الحديث بكل هذا الوضوح في الغرب، وهو ما تلقفته أحزاب اليمين المتشدد واشتغلت عليه ببراعة مستخدمة أدوات الديموقراطية الغربية لتصل إلى مفاصل القرار. نجحت بذلك في بعض الدول، واقتربت من النجاح في بعضها الآخر وفشلت في البعض الباقي. لكن خطواتها المتقدمة في بعض الدول الأوروبية تنبئ أن رصيدها الشعبي يزداد، وهو أمر على اللاجئين الموجودين حاليا أو الراغبين في الوصول إلى تلك الدول فهمه جيدا، إذ يعني هذا المزيد من الممارسات العنصرية ضدهم، والمزيد من التشدد في قوانين الهجرة واللجوء ومنح الاقامات أو تجديدها. ما يعني أيضا أن رفض الاندماج بذريعة الخوف من الثقافة المختلفة لم يعد مجديا ولا واردا، فهو يعني الترحيل دون تردد، والعودة إلى بلاد البؤس، أو يعني انفصالا عن الأولاد المحميين بقوانين لا تستثني أحدا.