التفسير الأقرب بحسب الداخل التركي حول ما جرى على خط قيصري – شمالي سوريا قبل أيام هو أن هناك من أزعجه تبادل الرسائل بين الرئيس التركي وبين بشار الأسد ويريد عرقلة ذلك أو الرد عليه، من خلال التسديد نحو نقاط الضعف في علاقات الطرفين وعلى رأسها ملف اللجوء وتشعباته.
التفسير الآخر كما تورده الكثير من التحليلات التركية هو أن ما حدث في الداخل التركي وما أعقبه من ردود فعل في إدلب وعفرين وجرابلس واعزاز، هو جزء من مؤامرة خارجية بأصابع داخلية، لضرب إسفين في العلاقة بين الأتراك واللاجئين السوريين وإبقاء ملف اللجوء فوق صفيح ساخن دائم التوتر.
المهم الآن هو الكشف بأسرع ما يمكن عن نتائج التحقيقات التي تجريها الأجهزة الأمنية والعدلية مع عشرات الموقوفين والمتهمين بارتكاب جرائم وجنح سابقة حول من الذي نقلهم إلى قيصري ومن يقف خلفهم في استهداف المواطنين السوريين ومنازلهم وممتلكاتهم بهدف إشعال فتنة عنصرية قابلة للتمدد والانتشار. لا يكفي الكشف عن التفاصيل طبعاً بل ينبغي معاقبة الفاعلين واتخاذ التدابير الكفيلة بعدم تكرار ما جرى.
لا أحد في مدينة بودروم السياحية التركية الواقعة على ساحل بحر إيجه يستعد لقمة تركية سورية مفاجئة، تكون الثانية في المكان بعد اللقاء الأول لعائلتي الرئيسين في أغسطس 2008. لكنه في الشق المتعلق بالغزل السياسي الأخير بين أنقرة والنظام في دمشق، فهي ليست المرة الأولى التي يوجه فيها أردوغان رسائل انفتاحية باتجاه بشار الأسد. هل نسينا أن أردوغان أعرب في مطلع مايو 2023 عن رغبته "بلقاء بشار الأسد إن تمكن من حضور قمة سمرقند لأنه كان لديه الكثير من الأمور التي سيبلغه بها"؟ وأن المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية عمر شليك قال في مطلع يناير المنصرم "إن الوقت قد حان لمد الجسور بين البلدين وللحوار السياسي"؟
يكرر أردوغان حديثه عن عدم وجود نوايا تركية للتدخل في شؤون سوريا الداخلية. كيف ستتمكن القيادات السياسية التركية من إقناع دمشق بذلك أن لا نية لها بالتدخل وهي تنفذ في الأعوام الأخيرة ثلاث عمليات عسكرية داخل شمالي سوريا، وتنشر قواتها العسكرية في عشرات المواقع وتسهم في دعم بناء "الجيش الوطني السوري"، وتواصل المشاركة في إنجاز مشاريع الإعمار والإسكان في مدن سوريا الشمالية من أجل تسهيل عودة مئات الآلاف من اللاجئين تحت غطاء المنطقة الآمنة؟
ألم يكن من الأفضل أن نقول للأسد إننا سنتدخل بقدر ما يواصل العديد من العواصم والأجهزة الإقليمية استهداف مصالح تركيا وأمنها وحدودها الجنوبية من الداخل السوري؟ وأن يعرف النظام أن أنقرة حتى ولو دخلت في حوار سياسي معه، فهي لن تسمح باستهداف أمنها عبر تمسك البعض بإنجاز مشروع انفصالي في شرق الفرات يهدد وحدة الأراضي السورية تحت علم "إرهابستان"، وبالتالي يطول أمنها واستقرارها هي؟
يريد أردوغان أن يسرع الحلحلة في الملف السوري بسبب ارتداداته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية على تركيا. كما يريد أن يقطع الطريق على المعارضة التركية التي سجلت تقدماً بالنقاط بعد إعلان نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة قبل ثلاثة أشهر، مستفيدة من أوراق الأزمات الاقتصادية وملف اللجوء في البلاد.
هو يقول بعد لقائه نظيره الروسي في الآستانا إنه يجب اتخاذ خطوات ملموسة لإنهاء حالة عدم الاستقرار في سوريا، والبحث عن حل للخروج من الأزمة. لكن أحمد داود أوغلو حليف الأمس وخصم اليوم، وبعدما كان شريكاً في صناعة سياسة تركيا السورية، يدعو لإقناع الرئيس الروسي بوتين بالتحدث إلى بشار الأسد ودفعه نحو تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254 وبأن يتحمل الأعضاء الدائمون مسؤولية تطبيق القرار. السؤال هو هل تريد موسكو فعلاً تنفيذ بنود هذا القرار قبل التحدث للأسد وإقناعه بتطبيقه؟
رئيس حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزال يذهب أبعد من ذلك في طرح سياسة حزبه السورية: "نبذل جهداً لترتيب لقاء مع بشار الأسد، وهذا اللقاء قد يتم خلال موسم الصيف الحالي والهدف الأساسي من ذلك، هو مناقشة مشكلة المهاجرين السوريين وتسهيل عودتهم إلى وطنهم، مع الاستعداد للتوسط بين أردوغان والأسد".
إقليمياً، تحاول موسكو وطهران وبغداد اليوم وغيرها من العواصم استغلال فرص سياسية وأمنية بينها ما يجري في شرق الفرات وأهمية التهدئة في سوريا في إطار التهدئة الإقليمية لتفعيل خطة التقريب بين أنقرة ودمشق. كل طرف له حساباته ومصالحه عند إنجاز خطوة من هذا النوع. توتر العلاقات التركية الروسية في العام المنصرم بسبب الملف الأوكراني والتوسعة الأطلسية والانفتاح التركي على واشنطن من جديد، كان له ارتداداته حتماً على خطط التسوية في سوريا. الأنظار من جديد نحو نتائج قمة أردوغان – بوتين في الآستانا وما ستنتج عنه قمة أردوغان – بايدن المرتقبة في أميركا على هامش اجتماعات حلف شمال الأطلسي. لكنها موجهة أيضاً صوب ما سيجري في منطقة شرق الفرات في الأيام المقبلة، على ضوء تمسك "قسد" بمشروع الحكم الذاتي، وما قد يسبق ذلك من تطورات سياسية على جبهة أنقرة – دمشق بوساطة عراقية روسية.
فقرار أي تقريب بين تركيا والنظام في دمشق لن يكون شأناً يعنيهما فقط، والأمور لن تنتهي عند الجلوس أمام طاولة الحوار، بل في شكل خارطة التفاهمات وما ستحمله معها، خصوصاً أن الجانب التركي يردد دائماً تمسكه بالقرارات الدولية حول الحل في سوريا. هذا إلى جانب ضرورة الأخذ بعين الاعتبار كل تفاصيل ومتغيرات المشهد الإقليمي ومصالح أكثر من لاعب محلي وخارجي.
خلال تنافس وسائل الإعلام التركية في الساعات الأخيرة على انتزاع سبق صحفي حول الموعد المحتمل للقاء أردوغان والأسد والذي قيل إنه سيتم قبل شهر سبتمبر المقبل، نشر موقع "أساس" اللبناني مادة مفصلة حول أسباب وخلفيات الجهود العراقية على خط الوساطة بين أنقرة ودمشق، ضمنها تسريبات لمصادر إقليمية تقول "إن مستشار الأمن الوطني في العراق قاسم الأعرجي تواصل بعد زيارة رجب طيب أردوغان بغداد مع رئيس هيئة الاستخبارات العامة السورية حسام لوقا، ورئيس جهاز الاستخبارات التركية إبراهيم قالن، وتقرر عقد لقاء ثنائي على المستوى الأمني بين الجانبين في بغداد، من دون حضور طرف ثالث. كما تؤكد معلومات "أساس" أن لقاءً عُقد على المستوى الأمني بين الجانبين في معبر كسب الحدودي بين تركيا وسوريا قبل أيام، بحث مسائل أمنية وتقنية، من دون أن يتطرق اللقاء للجانب السياسي المتروك للقاء بغداد.
هناك من يريد تسريع الحوار بين أنقرة ودمشق، لكن هناك من يردد أيضاً أن ثورة السوريين على نظامهم، تحت شعار التغيير والديمقراطية والحرية لا يمكن تجاهلها خصوصاً من قبل أنقرة التي ما زالت تنسق مع هذه القوى داخل تركيا وخارجها.
نستكمل ما بدأناه قبل أشهر وحيث توقفنا عند أن الملف السوري يتقدم نحو مسار جديد تريده العديد من العواصم نتيجة جملة من التحولات في السياسات والمواقف والمعطيات المحلية والإقليمية. رفض ما يجري أو محاولة عرقلته ممكن طبعاً، لكنه يتطلب طرح البدائل وامتلاك قوة الإقناع.
الرفض الغربي لأي انفتاح على النظام لم يقابله حراك سياسي دبلوماسي حقيقي ينهي معاناة السوريين. نتائج اجتماعات جنيف الأخيرة جاءت أقرب للنظرية وليس للتطبيق رغم قيمتها المعنوية. لم تعد أنقرة تريد منح البعض فرص التدخل والهيمنة على الملف والقرار تحت ذريعة إنقاذ سوريا عبر محاولات تفتيت أراضي جارها الجنوبي. ما تريده هو تسريع خطط الحل في إطار الالتزام بتنفيذ 2254 وتحديد شكل المرحلة الانتقالية في سوريا.
ما الذي سيفعله أردوغان البراغماتي الآن: هل سيواصل مشروع الانفتاح على النظام في دمشق ويترجم ذلك على الأرض في إطار دبلوماسية خطوة مقابل خطوة بدعم روسي عراقي؟ أم سيحاول تجيير هذا التقارب والانفتاح على دمشق إلى أوراق قوة وضغط على الإدارة الأميركية لتعطيه ما يريد في أكثر من ملف ثنائي وإقليمي تكون "قسد" الهدية الأولى فيها؟
لم يفهم البعض بعد أن التحول في سياسة تركيا السورية هو استراتيجي وليس تكتيكيا مرتبطا بالمتغيرات الإقليمية وتبدل مواقف الكثير من العواصم العربية ونظرتها إلى الملف، وأن مصالح تركيا تتطلب ذلك للخروج من حالة الجمود والانسداد. كان السؤال في السابق حول من الذي سيسبق التطبيع بين أنقرة والنظام، أم ترتيب طاولة الحوار بين قوى المعارضة والنظام؟ الإجابة قد تكون بتحريك المسارين معاً. ما سيساعد أنقرة في تحقيق ذلك هو ولادة معارضة سورية جديدة مغايرة متماسكة بصناعة وطنية سورية تدخل على خط التوازنات المحلية والإقليمية بأسرع ما يكون. سباق الوقت والمسافات يضيق ويتقلص أيضاً.