أحلام وكوابيس ومخابرات

2024.09.18 | 06:13 دمشق

2444444446
+A
حجم الخط
-A

عندما دخلت الأراضي اللبنانية في الشهر السادس من عام 2015، اعتقدتُ يومها أني نجوت نهائياً من جحيم سوريا الأسد، لكن لاحقاً اكتشفتُ أني، وربما مثلي ملايين، ما زالوا أسرى ذلك العنف العام الذي عاشوه طوال عقود.

لا شك سأُعتقل هناك

الدلالة؟ هي الأحلام، ما أعيشه منذ سنوات أني أرى نفس الحلم من ناحية المضمون، مع تغير بعض التفاصيل في كل حلم جديد. أرى نفسي في مدينتي، مسقط رأسي، سلمية، أتجول في شوارعها، أجلس، لكن خائفاً في بيت صديق حميم، مات بسبب القهر والحزن لاحقاً، وكان قد اعتقل عدة مرات بعد عام 2011. أخرج من بيته، أتفقد جهات الشارع الذي أمشي عليه، أقول لنفسي، لا شكّ سأُعتقل، إنهم يبحثون عني.. أهجو نفسي، أسألها: ما الذي أجبرني على العودة؟ أبلع ريقي، أتنفس بصعوبة، أريد الخلاص، لا خلاص. أصحو صباحاً في بيتي في ألمانيا، أحتاج ثواني لأعود إلى إدراكي الطبيعي وأعرف أين أنا. أتفقد خوفي وأصمت برعب متذكراً ما حلمتُ به. أشكر الشعب الألماني الذي فتح لنا حدوده وقلبه وحمانا من خلال دستوره الكبير.

خلال متابعتي للشأن السوري، عرفتُ أن عشرات وربما مئات من السوريين الذين يعيشون في أوروبا يحلمون نفس الحلم من ناحية المحتوى، يرون أنفسهم في سوريا ويعتقدون أنهم سيعتقلون.

لم أحتج إلى فرويد ولا إلى تلميذه يونغ لأفهم وأفسر أحلامي الكابوسية تلك، إنما احتجت إلى كتاب "حيونة الإنسان" لممدوح عدوان، الذي يشرح أهم الآليات التي تتحكم بها السلطة القمعية لتجعل مجتمعاً بكامله يخنع ويخضع لها.

فقد ارتبط خوفي الشخصي باسم الرئيس والمخابرات، فالرئيس يستطيع أن يفعل أي شيء، وهو الآمر الناهي، العارف بكل أحوالنا، ومخابراته هي قوة البطش والقمع المتقدمة التي تقوده وتحميه وتؤمن الاستقرار لحكمه.

اللاوعي الجمعي السوري مركب هائل من الخوف والذعر، خاصة بعد أن قرأنا وشاهدنا مئات الحلقات عن معتقلين سابقين نجوا من سجون الأسد. ولا وعينا الجمعي هو بالنهاية مجموع لاوعينا الفردي كمياً ونوعياً.

في إحدى المرات رأيت نفسي خلال الحلم في حالة سعادة مطلقة، كان الحلم هذه المرة مقلوباً تماماً، وجدت نفسي أسافر إلى ألمانيا، مع أني أعيش فيها. لكن السفر نفسه وتوقع الخلاص الكامل كان هو الحلم.

كيف تعمل الاستخبارات الألمانية، المعرفة بتسميتها "المكتب الاتحادي لحماية الدستور"؟ هل لديهم استخبارات جوية وأخرى عسكرية وثالثة سياسية ورابعة، أمن دولة، ومفارز.. ومخبرون وضباط بسيارات دفع رباعي؟

نعيش بذاكرتين، الأولى سورية..

من وصل لأوروبا من السوريين يعيش بذاكرتين، ذاكرة سورية وذاكرة جديدة، أوروبية تحمل اسم البلد الجديد. بالنسبة لي ذاكرتي الألمانية، هي ذاكرة البريد المرسل لنا من قبل مكاتب الدولة، والهدوء والأمان والكرامة. ذاكرتي هنا آمنة، بدون كوابيس. ذاكرتي السورية ممتلئة بكثير من الصراخ والعجز والخوف والكراهية والحقد والضعف والهشاشة والانتظار المقيت، وصورة الرئيس وهو يجلس على رقابنا جميعاً، ضاحكاً منّا جميعاً، ساخراً، متلهفاً للقبض علينا.

بسبب حالتي تلك، خطر على بالي هذا السؤال مرات عدة: كيف تعمل الاستخبارات الألمانية، المعرفة بتسميتها "المكتب الاتحادي لحماية الدستور"؟ هل لديهم استخبارات جوية وأخرى عسكرية وثالثة سياسية ورابعة، أمن دولة، ومفارز.. ومخبرون وضباط بسيارات دفع رباعي؟

أتابع الأخبار اليومية هنا، وأرى كيف يصل الحال بين الأحزاب المعارضة والحاكمة داخل البرلمان الألماني، التي تصل لحدود تبادل الشتائم السياسية.

المستشار نفسه لم يسلم من تعبيرات ساخرة قالها ضده رئيس أكبر حزب معارض، "ميرتس". ومع ذلك، الأمر عادي، فبعد جلسات البرلمان العاصفة بالنقاشات، ميرتس وصف المستشار قائلاً: إنّ حذاء المستشار كبير على رجلك بدرجتين، مع ذلك يذهب السياسي المعارض لبيته آمناً لينام، وكذلك المستشار. يمكن لرئيس الحكومة، الرد مباشرة على المعارضة أو الجلوس معها للاتفاق حول حزمة إجراءات جديدة تخص ملف الهجرة، الخ.

"إن أسوأ الجرائم التي يمكن أن ترتكبها عقول الأنظمة الشمولية، هي أن تجعل مواطنيها وبضمنهم ضحاياها شركاء في جرائمها.."

كيف تتحملون مشاهدة صور الرئيس؟

استكمالاً لحلمي، كابوسي الذي بدأت به كلامي، أتابع رحلات بعض المعارف إلى سوريا. أحدهم باح لي قائلاً: من شدة الخوف والحذر كان لا يرد خلال زيارته أهله في سوريا، على أي رسالة قادمة من أي صديق يعيش في ألمانيا خشية من المخابرات.

أما أنا، وبعد عودتهم، كنتُ أسألهم: وكيف كنتم تتحملون منظر صور الرئيس المنتشرة في كل مكان؟ خاصة وأنكم تعيشون منذ سنوات في أوروبا وعرفتم معنى الحرية والديمقراطية الحقيقي.

ثم كنت أطلب من بعضهم أن يصفوا لي الطريق ووجوه الناس هناك، وانطباعاتهم العامة بالتفاصيل عن الزيارة، وغالباً ما أتركهم يسترسلون في الحديث وأستمع لكل كلمة، وأحلم من خلال شرحهم وكأنني زرت سوريا.

هذا الجانب من المعاناة النفسية للسوريين، كوابيسهم، قلقهم، توترهم الدائم، يستحق الاهتمام به علمياً. والمجزرة لا تنتهي بانتهاء إطلاق النار وتعداد الضحايا، إنما تبقى آثارها النفسية دهراً طويلاً. ولولا أن التعميم لغة الحمقى، لعممتُ وقلتُ إن أغلبية السوريين يحتاجون لعلاج نفسي، ولا أستثني نفسي أبداً من شمولية هذا التعميم.

جلادون وضحايا نحن

تقول الروائية آذر نفيسي في روايتها "أن تقرأ لوليتا في طهران": "إن أسوأ الجرائم التي يمكن أن ترتكبها عقول الأنظمة الشمولية، هي أن تجعل مواطنيها وبضمنهم ضحاياها شركاء في جرائمها. فحينما ترقص مع جلادك، وتشارك بنفسك في حكم الإعدام على نفسك، فإن ذلك الفعل هو أقصى درجات الوحشية".

كم ينطبق هذا الكلام على نظام الأسد وسياساته القمعية طوال عقود. ألم يكن الجلاد الذي عذب المعتقلين سورياً؟ ألم يكن ضباط المخابرات الذين نفذوا المجازر سوريين؟ والشبيحة في عموم سوريا وفي كل مناطق النفوذ، أليسوا سوريين؟ أليس كُتاب التقارير سوريين؟

نعود للحلم، الكابوس. حتى وإن انتهينا من نظام الأسد وحدث التغيير الذي نأمله، فإن الكوابيس ستلاحقنا طويلاً كشكل من أشكال الخراب المديد الذي تركته فينا أنياب الجلاد الكبير.