في حيّ سوق ساروجا الدّمشقي رزق المفتي "أبو الخير عابدين" بمولودٍ ذكرٍ سنة 1889م سمّاه "أبا اليسر".
نشأ أبو اليسر عابدين في كنف والده الذي كان مفتيًا في نهاية العهد العثماني وعزله الأمير فيصل عقب استقلال سوريا عن الدّولة العثمانيّة.
-
الشّيخ أبو اليسر طبيبًا
تربّى أبو اليسر في حلقات العلم الشّرعي، فدرس الفقه والقرآن الكريم على يدي والده المفتي أبي الخير عابدين، كما تلقّى علوم الشرع واللّغة والمنطق على أيدي ثلّة من أكابر علماء دمشق في زمانه ومنهم الشّيخ بدر الدين الحسني، والشّيخ سليم سمارة، والشّيخ محمد أمين السويد.
ومن الملاحظ في تلقّي "أبي اليسر عابدين" العلوم الشرعيّة هو تعدّد المشارب إلى حدٍّ ما، فهو من أتباع الطّريقة النقشبنديّة بل غدا من أشهر شيوخها، ومع ذلك تلقّى من عددٍ من العلماء من خارج دائرة مشايخ النّقشبنديّة.
ومّما تميّز به الشّيخ أبو اليسر عابدين عن عامّة الوسط الشرعي في المدرسة الدينيّة التقليديّة في زمانه أنّه جمع إلى جانب علوم الشرع تخصصًا علميًّا هو الطّب البشري، وكان هذا لافتًا في زمانه من أبناء المدرسة الدّينيّة التقليديّة عمومًا.
فهو بدأ عمله في القضاء الشّرعي من عام 1920م وعيّن قاضيًا شرعيًّا ابتداءً في بعلبك سنة 1920م قبل أن تنفصل لبنان عن سوريا، وانتقل ليكون قاضيًا شرعيًّا في عددٍ من مناطق دمشق، وعلى الرّغم من عمله إلّا أنّه درس الطبّ البشري وتخرّج سنة 1926م، وحصل على شهادة المعادلة الفرنسيّة "الكولوكيوم".
مارس الشّيخ "أبو اليسر عابدين" الطبّ على مدى ثلاثين عامًا، بل إنّه مارس التّدريس في كليّة الطبّ البشريّ في جامعة دمشق، وعندما افتُتحت كليّة الشّريعة في جامعة دمشق سنة 1955م عمل فيما مدرّسًا لمادة أصول الفقه ومادة النّحو.
قلّ في ذلك الزّمان أن تجدَ عالمًا يدرّسُ الفقه والأصول والنّحو في الجامعة ويمارس الخطابة في المسجد وهو في الوقت ذاته أستاذٌ في كليّة الطبّ البشريّ، ويمارس أيضًا الطبّ في عيادته.
وممّا تميّز به الشّيخ أبو اليسر عابدين على أقرانه عمومًا وعلى المنتسبين إلى المدرسة الدّينيّة التقليديّة ما يتعلّق باللغات؛ فإلى جانب إتقان الشّيخ أبي اليسر العربية إتقان المعلّم لا المتعلّم، فقد أتقن أيضًا بشكل تام اللّغة الفرنسيّة واللّغة التركيّة، وكان متقنًا أيضًا اللّغة الفارسيّة متبحّرًا في آدابها، ويحفظ الكثير من أشعارها.
إذن فنحن نتحدّث عن شخصيّة مختلفةٍ عن النّسق العام للمؤسّسة الدّينيّة التّقليديّة في مختلف بلاد العالم الإسلامي وفي سوريا على وجه الخصوص؛ شخصيّة لها قدمٌ راسخةٌ في مجال علوم الشريعة حتّى غدت رمزًا علميًّا يشار إليه بالبنان، وإلى جانب ذلك أستاذ في الطبّ وجامع للّغات ضليعٌ بها وبآداب الشّعوب.
-
الشّيخ أبو اليسر عابدين مفتيًا
يقول الشّيخ علي الطّنطاوي ــ وهو من أخصّ تلاميذ الشّيخ "أبي اليسر عابدين" في "الذّكريات": "فلمّا دخلت كلّية الحقوق كان يدرّس لنا الأحوال الشّخصيّة الشّيخ أبو اليسر عابدين، وهو عالمٌ واسع الاطّلاع، عالي الهمّة، كان يعيش للعلم، يقرأ ويُقرئ نهاره وليله، يكتب كلّ ما يجد في الكتب من غرائب المسائل في الفقه وفي الاجتماع وفي الأدب وفي التّاريخ، ويدوّن كلّ ما يخطر على باله مما ينفع النّاس، ولم تكن العوائق لتعوقه عن طلب العلم مهما طال الطّريق وتوعّرت المسالك، أراد وهو كبير أن يدرس الطبّ فاقتضاه ذلك تعلّم اللّغة الفرنسيّة فتعلّمها ودخل كليّة الطبّ مع تلاميذه ومَن هم في سنّ أبنائه، وثبت على الدّراسة فيها حتى خرج منها طبيبًا، وكانت له عيادة يطبّب فيها المرضى كما كان يفتي المستفتين، ثمّ صار مفتي الشّام، أي مفتي الجمهوريّة السّوريّة، وكان أبوه من قبله الشّيخ أبو الخير مفتي الشّام، وعمّ أبيه هو صاحب الحاشية ابن عابدين؛ أفقه حنفيّ ظهر من نحو مئةٍ وخمسين سنة".
عقب وفاة المفتي الشّيخ شكري الأسطواني اجتمعت هيئة المفتين والمجلس الإسلامي الأعلى لانتخاب المفتي يوم الثاني عشر من حزيران "يونيو" من عام 1954م فانتخبوا بالإجماع الشّيخ "أبا اليسر عابدين" مفتيًا للجمهوريّة السّوريّة.
عقب انتخابه مفتيًا توقّف الشّيخ أبو اليسر عن العمل في الطبّ وتفرّغ للإفتاء والتّأليف والتدريس الشّرعيّ، واستمرّ في الإفتاء حتّى عام 1963م وقعت خلالها أحداث ومواقف تحتاج إلى تفصيل.
من المهمّ ذكره عند الحديث عن المفتي الشّيخ "أبي اليسر عابدين" أنّه كان غزير القلم فقد ألّف العديد من الكتب تزيد على ثلاثين كتابًا في أبواب مختلفة، وأثار بعضها قضايا شائكة، ومن مؤلفاته؛ "أغاليط المؤرخين"، "لِمَ سُمّي؟"، "رسالة في القراءة والقراءات"، "كتاب الأحوال الشخصية"، "أحكام الوصايا"، "الأصول والكليات"، "الألفاظ اللّغوية الطبية"، "الرداف اللّغوية للألفاظ العامية" "أكاذيب مسيلمة الكذاب الذي عارض به كلام الله تعالى"، "قرّة العيون فيما يستملح من المجنون"، وغيرها
وكان الشّيخ أبو اليسر عابدين يملك من سعة العلم والاطلاع ما يُستَهجن من أبناء عصره، وقد قال في ذلك الشّيخ علي الطنطاوي: "وكان الشّيخ أبو اليسر محيطًا بالمذهب الحنفي إحاطةً عجيبة مطلعًا على كتبه كلّها، ولولا أنّني أعرفه بملازمتي إيّاه سنين طوالًا لشككتُ إن حدّثني مُحدِّثٌ بما أعرفه عنه، ولقد أرسلَت إليّ إحدى المكتبات العامّة هنا من صورة عن كرّاس مخطوط في الفقه ماله عنوان وما عليه اسم المؤلّف ولا تاريخ النّسخ، فلم أعرفه، فكلّمتُ شيخنا بالهاتف من مكّةَ وتلوتُ عليه فقراتٍ من الكتاب؛ فعرفه وسمّى مؤلّفه! ثمّ تحقّقتُ أنّ ما قاله الشّيخ هو الصّحيح".
مرّ الشّيخ أبو اليسر عابدين بمواقف كثيرة وقد عاد إلى مسجده "جامع الورد" عقب عزله عن الإفتاء عام 1963م وبقي فيه إلى وفاته عام 1981م عن عمر ناهز اثنين وتسعين عامًا.
ولكن ماذا عن مواقف الشّيخ أبي اليسر عابدين من الأحداث الكبيرة التي تعاقبت على سوريا؟ فكيف كان سلوكه في الثّورة السّوريّة الكبرى؟ وما موقفه من الملك فيصل؟ وما دوره في حرب فلسطين عام 1948م؟ وماذا كان موقفه إبان العدوان الثلاثي على مصر؟ وما حقيقة المواجهة بينه وبين جمال عبد النّاصر؟ وكيف تعامل معه حزب البعث عقب استيلائه على السلطة؟ كلّ هذه الأسئلة نجيب عنها ــ بإذن الله تعالى ــ في المقال القادم.