في الوقت الذي تعمل فيه أوروبا على ملاحقة مجرمي الحرب من أتباع النظام السوري الهاربين إليها والمتوارين في أراضيها تحت صفة لاجئ، سواء أكانوا من ذوي البدلات العسكرية أم من أولئك الذين عملوا في أجهزة الأمن والمخابرات في سوريا، فإنها تغفل أو تتغافل عن ملاحقة أو مساءلة داعمي مجرمي الحرب والمدافعين عنهم ومروجي روايتهم من ذوي الملابس المدنية والذين يمارسون مهامهم على أكمل وجه ولا يتوانون عن قلب الحقائق وتحريفها وتحويل القاتل إلى ضحية، والتركيز على الديمقراطية "المزيفة" وحقوق الإنسان "المهدورة" في أوروبا، في مقابل ديمقراطية النظام السوري التي تفوقت على كل الديمقراطيات في العالم.
تطوع كثير من أتباع النظام لنشر روايته في أوروبا منهم سوريون حقدوا على الثورة بسبب تضرر مصالحهم، ومنهم من صدقوا رواية النظام بحكم سذاجتهم أو بعدهم عن الحدث، وآخرون يدافعون عنه طمعاً ببعض المنافع والمكتسبات أو لتوطيد صلتهم مع أجهزة الأمن، لكن أثر هؤلاء يبدو ضئيلاً بالمقارنة مع الأبواق المتخصصة التي تحظى بمساحات كبيرة في الإعلام ويتم التعامل معها على أنها شخصيات اعتبارية لها حضور ملحوظ في الساحة السياسية.
تتنكر تلك الأبواق الرسمية -التي ترهن نفسها بشكل كامل للعمل كأدوات في ماكينة النظام الإعلامية- بثياب الصحافة، واضعة نصب أعينها مهمة أساسية ألا وهي تزوير الوقائع وتثبيت رواية النظام كحقيقة لا تقبل الجدل على ما فيها من ضعف وركاكة.
ومن ضمن مجموعة كبيرة من الأسماء الموجودة في أوروبا والتي تدافع عن النظام وتهاجم الغرب بشكل عام، يمكن الإشارة إلى اسمين لامعين يعدان من أبرز الناشطين في مجال التزوير العلني للحقائق، أولهما الدكتور ماجد نعمة مدير تحرير مجلة "أفريكازي"، أو (أفريقيا وآسيا) والمقيم في باريس، وثانيهما أكثم سليمان المذيع السابق في إذاعة صوت ألمانيا، والمدير السابق لمكتب قناة الجزيرة في برلين والذي استقال منها في العام ٢٠١٢ على خلفية موقف القناة من الثورة السورية، وهو مقيم في ألمانيا حتى الآن، وهذان "الصحفيان" تتم استضافتهما بشكل شبه يومي في تلفزيونات النظام.
محاولة إقناع الأوروبيين أنفسهم برواية النظام في محاولة لدفع شعوب تلك البلدان للتشكيك في الرواية الحقيقية من خلال "سوريين" يناقضون سوريين
يستعمل النظام هذه الأبواق في ثلاث مهام أساسية، الأولى تتمثل في نشر روايته وتأكيدها بين الجاليات السورية المقيمة في الغرب سواء من القدامى الذين لم يشهدوا الحدث السوري ولم يعرفوا تفاصيله، أو القادمين الجدد الذين فروا بحثاً عن الخلاص الفردي دون أن يكون لهم موقف وطني أو سياسي.
المهمة الثانية والأهم تتمثل في محاولة إقناع الأوروبيين أنفسهم برواية النظام في محاولة لدفع شعوب تلك البلدان للتشكيك في الرواية الحقيقية من خلال "سوريين" يناقضون سوريين، وتحويل القضية إلى وجهة نظر تبدو في ظاهرها حرة وموضوعية، وخصوصاً حينما تأتي تلك الشهادات التي تصب في صالح رواية النظام من سوريين من المفترض أنهم لا يقعون تحت سلطته ويعيشون في أوروبا، فيظهرون بمظهر المحايد المدافع عن الحقيقة من خلال وجهة نظر ليسوا مجبورين أن يتبنوها، ويعتمد هؤلاء بالطبع على تسليم الأوروبيين بخطر الإرهاب والتيارات الجهادية، ولهذا فهم يقومون باختصار الثورة السورية بالجماعات الإرهابية فيضمنون انحياز الأوروبي للأسد على الأقل في مقارنته مع خصومه المفترضين.
المهمة الثالثة والأكثر أهمية بالنسبة للنظام فيما يتعلق بعمل هؤلاء تتجسد بالخطاب الموجه إلى الداخل، فهذه الأبواق لا تكتفي بتكرار رواية النظام، بل تذهب باتجاه تشويه الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي في أوروبا، ليس من خلال علاقة أوروبا بالحدث السوري وحسب، بل بكل ما يتعلق بالشؤون الأوروبية الداخلية وعلاقاتها الخارجية، ويوصلون للمشاهد السوري المقيم تحت سلطة النظام الصورة المتوهمة، أو الصورة المشتهاة التي تحط من شأن أوروبا، فتنفي ديمقراطيتها وحرية التعبير وحقوق الإنسان فيها وتصورها على أنها بلاد استعمارية معادية للشعوب العربية ومعادية لشعوبها أيضاً، الأمر الذي يجعل سلوك النظام السوري بكل عنفه وإرهابه وقمعه وجرائمه ومجازره أمراً اعتيادياً يحدث في كل العالم بما فيه البلدان المتطورة، وينمي من جهة أخرى الحقد على أوروبا باعتبارها السبب في دمار سوريا من خلال تآمرها وأطماعها في المنطقة العربية.
يراهن هؤلاء على أن مداخلاتهم باللغة العربية لن تترجم في الغالب إلى لغات البلدان التي يعيشون فيها، وإذا ما ترجمت فسوف يحتمون بالقانون الأوروبي الذي لا يجرّم الرأي مهما كان منحازاً ويدخله في إطار حرية التعبير ذاتها التي تتيحها أوروبا والتي ينكرونها تماماً في مداخلاتهم، ولهذا فهم لا يقيمون وزناً لمدى كذبهم وتحريفهم للحقائق.
لا يمكننا أن ننكر أن أوروبا اليوم تعاني من مشكلات بنيوية ومصيرية، ولكن أبواق النظام يضخمون تلك المشكلات ويصورون أوروبا على أنها على وشك الانهيار، وأنها تعاني من أزمات أكبر من تلك التي تعاني منها سوريا، سواء في الاقتصاد أو السياسة أو على صعيد المجتمع الذي ينهار تماماً، ويتحدثون عن صدام متوقع بين الحكومات والشعوب وعن مظاهرات ستؤدي إلى الإطاحة بالحكومات، وما إلى ذلك مما يتفتق عنه خيالهم الواسع من أجل إرضاء النظام وإشباع رغباته في مهاجمة أوروبا.
لا تخرج مداخلات هؤلاء عن سياق الخطاب المحلي الاستهلاكي، فهم يتحدثون من أوروبا بلغة مطابقة للغة الأبواق الذين يتحدثون من دمشق، مما يؤكد أن ثمة اتفاقاً على الخطاب بصرف النظر عن الجغرافيا التي يتحدث منها البوق. غير أن النظام يعول على أولئك المقيمين في أوروبا في إمكانية خديعة المتلقي المحلي وكسب قدر من المصداقية، وفي الوقت نفسه طمأنة السوريين الذين يعيشون تحت سلطته إلى أن الأوضاع المزرية التي يعيشونها، تعيشها أيضاً شعوب أوروبا، بل إن الانهيار الكامل هو ما ينتظر أوروبا في مقابل المستقبل الواعد الذي ينتظر السوريين بقيادة رئيسهم المنتصر على العالم.
كما تحاول الأبواق تصوير "ندم" الحكومات الأوروبية على موقفها من الأسد وإدراكها أخطاء قراراتها، وهرولتها للمصالحة معه، وأن من يقرر مصير أوروبا في النهاية هو الأسد نفسه، إنهم ببساطة يفصّلون الواقع الأوروبي على مقاس رغبة النظام ووفق نظرية المشتهى المنفصلة تماماً عن أي صلة بالواقع.
مؤخراً، وعلى خلفية الحرب الروسية على أوكرانيا، تحولت مهمة هذه الأبواق للهجوم على أوكرانيا و"نازييها" الجدد وللتهليل للرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبطولاته الكبرى وتهديده لأوروبا وأزمة الغاز والوقود والشتاء القاسي الذي ينتظر الأوروبيين، وصولاً إلى التفاؤل بانهيار أوروبا الكامل وزوالها.
لماذا يبقى كل من ماجد نعمة وأكثم سليمان وأشباههما في أوروبا المهلهلة، المفككة، الآيلة للزوال والمقبلة على شتاء لا غاز فيه ولا طاقة؟
لا تخفى لغة الشماتة والكيدية والفرحة عند تلك الأبواق بأي حدث سيئ قد يطول أوروبا، حتى لو كان متوهماً، ولكنهم يسوقونه على أنه حاصل لا محالة، وهنا تبدو الفرحة غامرة على وجوه مقدمات ومقدمي البرامج في تلفزيونات النظام، وعلى وجه الضيوف كمن يحتفل بانتصار حقيقي.
والسؤال الذي يكرر نفسه باستمرار في هذا السياق: لماذا يبقى كل من ماجد نعمة وأكثم سليمان وأشباههما في أوروبا المهلهلة، المفككة، الآيلة للزوال والمقبلة على شتاء لا غاز فيه ولا طاقة؟ لماذا يبقون في تلك البلدان الاستعمارية المتآمرة على سوريا؟ ألم يغادر أكثم سليمان قناة الجزيرة لأنها كانت طرفاً في المؤامرة على سوريا؟ فلماذا يقبل بالعيش في البلدان التي كانت سبباً في تدميرها والتي لا تزال لها مطامع استعمارية فيها؟
ولماذا لا يغادر ماجد نعمة فرنسا المتخلفة والمفككة والمتآمرة ويذهب إلى سوريا المتطورة والضامنة لحقوق الإنسان والمقاتلة من أجل العرب والعروبة ومن أجل الحرية والعدالة والتطور؟
أبسط الشواهد التي تكذب تلك الأبواق هي قدرتهم على انتقاد أوروبا وتلفيق الروايات الكاذبة عنها دون خوف من المخابرات الأوروبية، فيما لا يجرؤ صوت واحد من داخل مناطق سيطرة العصابة الحاكمة في دمشق على إبداء ملاحظة واحدة على سياسة النظام.
أليس حريّاً بأوروبا أن تبدأ بملاحقة أبواق النظام المقيمين لديها باعتبارهم مجرمي حرب أو بالحد الأدنى داعمين لمجرمي الحرب؟