ربما لا يجهل السوريون جميعهم مظاهر وأنماط الولاء للسلطة التي كان يؤديها معظم المواطنين بأشكال مختلفة، وذلك وفقاً للحالة أو الموقف أو المناسبة، إلى درجة أن أصبحت تلك السلوكيات شكلاً من أشكال الثقافة التي تنتشر بين قطاعات جماهيرية واسعة، أو ما يمكن تسميته (الجمهور النفسي) وفقاً لغوستاف لوبون، وغني عن البيان أن جميع تلك الممارسات لم تكن تنبثق عن خيارات شخصية أو مجتمعية للبشر، بل هي أنماط من السلوك القهري الذي يُفرض على المواطنين سواء بطرق مباشرة أو غير مباشرة، إلّا أن تلك الأنماط القهرية تغدو مع مرور الوقت سلوكاً مألوفاً، مما يجعل التصالح المجتمعي مع هذا السلوك لدى أغلب المواطنين مآلاً لا بدّ منه.
تزخر السجون والمعتقلات السورية على امتداد الحقبة الأسدية في عهدي الأب والابن، بحالات لا حصر لها، تبيّن بجلاء وبدقة طبيعة الولاء الذي تطلبه السلطة من المواطن السوري من جهة، كما تبيّن أيضاً الأشكال المطلوبة في التعبير عن ذاك الولاء، ولعل الأهم في هذا السياق، هو أن استمرار السلطة في تعزيز منهج القهر قد ألغى لدى المواطن (مساحة الصمت أو السكوت) كسلوك انكفائي أو محايد، بل ربما بدا هذا الحياد عداءً مُضمَراً لدى المواطن – وفقاً للذهنية الأمنية للسلطة – ومن ذلك على سبيل المثال، تعرُّض الكثير من المواطنين السوريين للاعتقال والتحقيق في فروع المخابرات أو المساءلة من قبل الجهات الحزبية، بسبب سكوتهم أو صمتهم، مثال ذلك عدم تصفيقهم عند ذكر اسم رئيس النظام في مهرجان خطابي ما، أو عدم مشاركتهم بالهتافات التي تمجّد رأس السلطة، بل لعله بات من المألوف جداً أن ينتشر عددٌ من عناصر الأمن في الحالات التي تشهد حشوداً جماهيرية، وتنحصر مهمتهم الأمنية في رصد الأشخاص الذين لا يبدون التفاعل الذي تطلبه السلطة، أو ترصد الحالات التي يمكن تفسيرها على أنها سلوك معادٍ للسلطة، ولعل أبرز الأمثلة على هذا النمط من القهر الأمني هو حالات الاعتقال العديدة في صفوف المواطنين أثناء موت باسل الأسد، الشقيق الأكبر لبشار، في كانون الثاني من العام 1994، حيث قامت عناصر الأمن خلال سبرها للحشود الشعبية، بضبط العديد من المواطنين وهم يبتسمون، أو أنهم لا يبدون علائم الحزن، وقد قضى أغلب المتهمين بارتكاب هذا السلوك (المناهض للسلطة) فترة في السجن تمتد من ستة أشهر إلى سنة كاملة. وبخصوص حادثة موت باسل الأسد، يجدر الوقوف عند إحدى الحالات الفارقة، انطلاقاً من مقولة (الشيء بالشيء يُذكر)، إذ لقد كان رئيس الوزراء الأسبق المدعو (محمود الزعبي) هو من أكثر أعضاء الحكومة الذين أظهروا جزعاً وتفجّعاً على موت ابن رئيسه، إلى درجة أنه وأثناء تشييع الجنازة، تقدّم بضعة أمتار معترضاً الموكب الذي يمشي فيه حافظ الأسد، حتى يكون مرئياً ولافتاً لانتباه الجميع، وقام باحتضان (حصان) باسل الأسد ومعانقته عناقاً ممزوجاً بالقبلات والدموع والنحيب، تعبيراً عن مقدار حزنه وتأثره من جهة، وتعبيراً عن ولاء بلا حدود لرئيسه من جهة أخرى، ولكن المفارقة تكمن في أن تلك الرسالة البليغة التي حاول الزعبي إيصالها لحافظ الأسد آنذاك، لم يكن لها أي أثر في تغيير مصيره التراجيدي، إذ قام بعزله ووضعه في إقامة جبرية ببيته بتهمة فساد مالي، ثم انتهى الزعبي مقتولاً برصاصات خمس في الرأس، وقد عزا الإعلام الرسمي للنظام – آنذاك – تلك الحادثة إلى حالة انتحار.
في أعقاب مجزرة الكيماوي التي ارتكبتها قوات الأسد في الغوطة الشرقية في آب 2013، أشار بشار الأسد في أحد أحاديثه إلى ضرورة تعقّب ما يدعوهم بالإرهابيين السوريين على حدّ تعبيره، لا من جهة القبض عليهم ومحاسبتهم فحسب، بل من جهة ضرورة اجتثاث حواضنهم الشعبية أيضاً
في أعقاب مجزرة الكيماوي التي ارتكبتها قوات الأسد في الغوطة الشرقية في آب 2013، أشار بشار الأسد في أحد أحاديثه إلى ضرورة تعقّب ما يدعوهم بالإرهابيين السوريين على حدّ تعبيره، لا من جهة القبض عليهم ومحاسبتهم فحسب، بل من جهة ضرورة اجتثاث حواضنهم الشعبية أيضاً، إذ إن هؤلاء ( الإرهابيين ) لهم عوائل وأهلون وأقارب، وبالتالي فإن المسألة لا تنحصر بأفراد محددين، بل بحواضن كاملة بحسب بشار الأسد، وهذه الحواضن يمكن أن تكون قرى أو بلدات أو مدناً بكاملها. ولئن كان رأس النظام في حديثه آنذاك يريد تبرير ما تقوم به قواته من اقتلاع السكان وتهجيرهم من بلداتهم ومدنهم بالقوة، كما حصل في حلب والغوطة ودرعا والقصير وسواها، إلّا أن حديثه يعكس من جهة أخرى، تحوّلاً نوعياً في توسعة مصطلح (إرهابي) ليتحول من تهمة تطول فرداً أو أفراداً أو جماعة بعينها، إلى تهمة تطول شرائح اجتماعية ربما تشكل نسبة عالية من السكان، وتعزيزاً لهذا المسعى لا يرغب رأس النظام أن يبقى مصطلح (إرهابي) هو مجرد تهمة تطلقها السلطة على مناهضيها فحسب، بل يهدف إلى أن تتحوّل هذه التهمة إلى واقع يُقرّ به المواطنون المتهمون أنفسهم، أي الهدف هو دفع المجتمع إلى التصالح النفسي مع هذه التهمة إلى أن تصبح أمراً واقعاً، ولعل الإجراءات العملية لهذا التحوّل يمكن تلمّسها فيما يُدعى (المصالحات) التي تُجريها السلطة في العديد من المحافظات، حيث يتوجب على كل مواطن يقف أمام لجنة المصالحة أن يوقّع على وثيقة تبدأ بـ (أنا الإرهابي فلان بن فلان.........).
منذ العام 2018 تشهد العديد من المناطق والمدن السورية تنافساً شديداً بين روسيا وإيران على استقطاب قطاعات من الشباب السوري لتجنيدهم في القتال، إما مع ميليشيات إيران الطائفية، أو في صفوف المرتزقة الروس، وذلك بفعل إغراءات مادية مختلفة تتيحها حالة الفقر والبؤس المعيشي والاجتماعي التي باتت متفشية لدى شرائح واسعة من السكان، ولئن كان من الصحيح أن السلطة الأسدية لا تبدي اعتراضاً ملموساً حيال هذا الاستقطاب، إلّا أنها تقوم برصد جميع المجندين في تلك الميليشيات وتقييدهم في سجلات أمنية خاصة، وأغلب الظن أن هؤلاء المجندين لن يختلف حالهم عن حال معظم الذين زج بهم نظام الأسد نحو العراق في أعقاب العام 2003، بذريعة محاربة الاحتلال الأميركي، ثم تحولت قيود هؤلاء المتطوعين إلى ورقة لدى نظام الأسد، يساوم عليها أجهزة مخابراتية غربية، باعتبار تلك القيود تتضمن أسماء لإرهابيين يمكن أن يكونوا مبعث خطر يهدد الأمن العالمي.
لقد أفضى المسعى الأسدي بتعميم صفة (الإرهابي) في المجتمع السوري إلى ظهور مصطلح آخر، مشتق من الأول، هو (المرتزقة السوريون) وهم المقاتلون الذين يقوم الروس بتجنيدهم وزجهم للقتال في الحرب التي شنّها بوتين على أوكرانيا منذ الرابع والعشرين من شهر شباط الماضي، ولا شك أن هؤلاء المرتزقة هم بمثابة شهادة حسن سلوك وعربون ولاء وردّ الجميل يقدمها بشار الأسد لأسياده الروس الذين يدين لهم ببقائه في السلطة حتى الآن، فضلاً عن أنها تأكيد للوصاية الروسية التامة على كيان الأسد.
ربما أفلح الكيان الأسدي – بفضل تحالفاته الدولية والإقليمية - في مواجهة ثورة السوريين – عسكرياً وسياسياً – كما أفلح حتى الوقت الراهن في أن ينجو من العقاب والمساءلة، بفضل إيلاء المجتمع الدولي مصالحَه أولويةً تتقدّم على أيّة قيمة إنسانية، كما استغلّ غضّ الطرف العالمي عن جميع جرائمه بحق السوريين على امتداد أكثر من عقد من الزمن، وها هو العالم الذي سكت للأمس القريب عن الجريمة من مصدرها الأسدي، يواجه اليوم النهج الإجرامي ذاته من مصدره البوتيني المماثل، ولم يعد يستهدف السوريين فحسب، بل يداهم العالم المتحضّر في عقر داره، وهذا ما يعنيه بوتين حين يهدّد العالم بحرب نووية طاحنة، فهل سيدفع هذا المشهد المخيف حكومات الدول العظمى إلى تعقّب الإرهاب واجتثاثه من مظانّه الأصلية، وليس لدى السوريين الذين هم أبرز ضحاياه.