كان من المفترض أن تكون انتفاضة السوريين في آذار 2011 قد جسّدت مفصلاً نوعياً في حياة السوريين تمثّل بقدرتهم على هدم جدران الخوف وتجاوز هيبة السلطة وتحدّي حناجر المتظاهرين وأشكال حراكهم السلمي لآلة القتل الأسدية، وبالتالي فإن هذه الهزيمة الأخلاقية للنظام الأمني هي في الوقت ذاته مساهمة في تحرير النخب المجتمعية من كوابح الخوف وإتاحة الفرصة لها من جديد لتستعيد المبادرة في القيام بدورها ( النخبوي) المتمثل بتوجيه الحراك الشعبي ورفده بالأفكار والتصورات الداعمة لمشروع التغيير.
ولعل هذا ما تم بالفعل، من خلال مساهمة شرائح عديدة من المثقفين السوريين انحازت إلى ثورة السوريين وشاركت بأشكال مختلفة في مفاصل المواجهة مع السلطة. إلّا أن هذا الاندفاع النخبوي نحو نصرة الحراك السوري بدأ يتضاءل بالتدريج منذ أواخر العام 2012 ، موازاةً مع هيمنة الطابع العسكري وارتفاع وتيرة العنف على المشهد الميداني وانحسار الحراك السلمي أو تلاشيه، وقدرة قوى التطرف على اختراق مفاصل الثورة والسيطرة على مساحات واسعة من الجغرافيا السورية، وكذلك تبلور النفوذ الإقليمي والدولي وتحكّمه بدقائق المشهد السوري.
انكفاء الكثير من المثقفين السوريين – في حينه – برّره البعض منهم بعدم جدوى أي مسعى نضالي سلمي في ظل وجود جيوش خارجية وميليشيات جاءت من شتى بقاع الأرض إلى الأرض السورية، الأمر الذي جعل مفاتيح القضية السورية بيد الخارج – الدولي أو الإقليمي – وبالتالي فإن مصير القضية السورية بات مرهوناً بصراع المصالح الدولية ليس على الأرض السورية فحسب، بل في أماكن عديدة من العالم، إلّا أن هذا الانكفاء عن التعاطي المباشر للمثقفين مع قضايا الشأن العام السوري لا يعني إدارة الظهر أو التخلّي عن المسؤولية – وفقاً للكثيرين منهم - بل يوجب العمل على مستويات نضالية أخرى، لعل أبرزها الشروع بالعمل على إنجاز مشروع التغيير فيما يخص مستقبل الدولة السورية، وكذلك العمل على إنتاج رؤى ومقاربات جديدة لمواجهة نظام الطغيان الأسدي، فضلاً عن البحث في سبل جديدة لتأطير العمل السياسي والمدني، موازاةً مع العمل المستمر على المستوى الإعلامي والثقافي لتعزيز مفهوم عدالة القضية السورية لدى الرأي العام، وسوى ذلك الكثير.
إن عدداً كبيراً ممّا يدعى بمنظمات المجتمع المدني التي كانت تعمل في الإغاثة وقطاع الصحة والتعليم تحوّلت للعمل في مجال تمكين المرأة وإنتاج الدستور والقضايا المستقبلية للدولة السورية المنشودة.
على مدى أكثر من عقد مضى حفل المشهد (النخبوي) السوري بنشاط ليس بالقليل وخاصة بما يتعلق بإنجاز مشروع (سوريا المستقبل)، بل بات هذا الأمر الشغلَ الشاغل لمعظم مراكز البحوث والدراسات، وكذلك بات هذا المسعى الهاجس الأهم والحافز الأكبر لشرائح سورية سواء في المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد أو في تركيا وبلدان اللجوء الأخرى، من خلال آلاف الندوات وورش العمل واللقاءات سواء على المستوى الفيزيائي أو عبر وسائل التواصل الأخرى، بل إن عدداً كبيراً ممّا يدعى بمنظمات المجتمع المدني التي كانت تعمل في الإغاثة وقطاع الصحة والتعليم تحوّلت للعمل في مجال تمكين المرأة وإنتاج الدستور والقضايا المستقبلية للدولة السورية المنشودة، وبالتالي أصبح بميسور أي مواطن سوري أن يقف أمام كمٍّ هائل من الدراسات والبحوث وأوراق العمل التي تزخر بموضوعات ومفاهيم من مثل: (أشكال نظام الحكم – الفيدرالية – اللامركزية – المواطنة – العلمانية – علاقة الدين بالدولة – العقد الاجتماعي – الدستور – التعدد العرقي والإثني في الدولة – إلخ)، ولكن يمكن التأكيد على أن هذا المُنتَج البحثي النوعي والهائل بقي موسوماً بسمات ثلاث:
1 – النتائج المتشابهة إلى درجة التطابق في كثير من الأحيان، وهذه سمة لا تعيب هذا المنتج، بل ربما دلّت على مستوى متقدم من التوافقات في وجهات النظر أو توجهات النخب السورية.
2 – لم يتزامن هذا المُنتَج البحثي النظري مع مُنتَج تنظيمي يتمثل بكيان أو إطار سياسي ليكون الحامل الفعلي للمنتج البحثي من جهة، وليكون المظلة السياسية الجامعة التي من شأنها صياغة خطاب سياسي يوازي في جدّته ومضامينه التصورات المستقبلية لسوريا كما تتجلى في التصورات البحثية الجديدة من جهة أخرى.
3 – غالباً ما ظل هذا المسعى البحثي بعيداً أو نائياً بنفسه عن التعاطي مع استراتيجيات وبرامج ذات صلة مباشرة بمفهوم (إسقاط النظام) كاستحقاق لازم للتحقّق الفعلي لسوريا المستقبل.
ولعل هذه السمات هي ما يجعل المُنتج النخبوي على ضفة مقابلة للواقع الفعلي السوري، ويجعل النخب أيضاً بعيدة عن المساهمة بأي دور من شأنه الحدُّ من شدّة بؤس الواقع الحياتي، أو إنارة شمعةٍ في ردهاته الموغلة في الظلام، فما السبب النابذُ لتلاقي الضفتين؟
ما لا يمكن تفهّمه، بل ما هو مثير للذهول حقاً أن تكون جميع أسباب إخفاقات تلك النخب إنما تكمن في (العفن) المتراكم في الجسد السوري الذي ما إنْ أعلن تمرّده على نظام الطغيان الأسدي حتى انبثقت من تحت رواكم ذلك العفن جميع الموبقات والشرور.
لعله من حق النخب السورية، بل من واجبها أن تعكف - من خلال مراجعات نقدية معمّقة – على دراسة أسباب إخفاقاتها وتعثّرها، كما من حقها أيضاً أن تعزو تلك الإخفاقات إلى أسبابها الذاتية أو الموضوعية الخارجة عن إرادتها، وتتحمّل مسؤولياتها بمزيد من الحسّ الأخلاقي والجرأة والشفافية، وربما كان هذا مدعاةً لاحترامها وتفهّم مقولاتها مهما كانت النتائج، ولكن ما لا يمكن تفهّمه، بل ما هو مثير للذهول حقاً أن تكون جميع أسباب إخفاقات تلك النخب إنما تكمن في (العفن) المتراكم في الجسد السوري الذي ما إنْ أعلن تمرّده على نظام الطغيان الأسدي حتى انبثقت من تحت رواكم ذلك العفن جميع الموبقات والشرور، فهذا ما هو صادم بالفعل، وهذه الصدمة ليست افتراضية ولا ناتجة عن تخمين أو سوء ظن، بل هي تجسيد لمقولات وأحاديث لنخب سورية عبر ندوات تناقش وتتباحث فيها عن سبل الخروج من الأزمة، فتجد معوّقاتها فيما يلي:
1 – استمرارية نظام الأسد أو زواله لا صلة لها بالنخبة التي تعنى فقط بالمُنتج الفكري والثقافي ورسم ملامح الدولة المستقبلية، بل ربما بات شعار (إسقاط النظام) مثيراً للاشمئزاز والنفور نظراً لاستخدامه الشعبوي المفرط و المبتذل من جهات لا ترقى بمستوى وعيها وتفكيرها إلى شرائح النخبة.
2 – الشعب السوري مُفكّك ومتشظٍّ بل يفتقر إلى أدنى الروابط التي تجمع بين أفراده، بل هو مجرّد من أي إرث إجتماعي أو قيمي يوحي بإمكانية التعايش السلمي أو يوحي بوجود برصيد من التسامح والوئام الإنساني، بل ربما غدا عبارة عن قطعان بشرية متوحّشة ما إن غابت سلطة الأسد حتى بدا يفترس بعضه بعضا.
3 – ما تشهده سوريا هو حرب أهلية مبعثها نزاع عرقي وطائفي، سببه الاضطهاد الذي مارسه العرب على الأقليات، باعتبار أن حزب البعث الحاكم يتبنى إيديولوجيا قومية عربية، والظلم الذي مارسته الأكثرية السنية على الأديان والطوائف الأخرى، باعتبار أن داعش والنصرة وجميع القوى الإرهابية والمتطرفة هي مُنتَج إسلامي سنّي حصراً، وتكاد تغيب أي مسؤولية لنظام الأسد وفقاً لهذا التشخيص.
4 – الشعب السوري لم يكن مهيّئاً للثورة بالأصل، وكان عليه قبل ذلك المرور بمرحلة تنويرية، وربما عليه الانتظار نصف قرن على أقل تقدير حتى يبلغ مرحلة النضج، ومن ثم يتلقى الإيعاز من روّاد التنوير لإعلان الثورة.
وبالمجمل فإن ما تشير إليه البنود أعلاه يؤكد أن معوّقات التغيير الحقيقية - وفقاً للنخب السورية - إنما تكمن في بنية المجتمع السوري الرافضة وغير القابلة للتغيير، ولا علاقة لها بنظام الإبادة الأسدي الذي ربما يعود له الفضل – وفقاً للاستنتاجات النخبوية – في كبح جماح الانفجار الهائل من الموبقات طيلة نصف قرن مضى من حياة السوريين، كما انه من المفيد القول إن السرديات السالفة للنخب المذكورة لا تحتاج إلى مناقشة لأنها شديدة الوضوح والمقصد، إذ هي تؤكّد على مسألتين اثنتين، تحيل الأولى إلى رفض النخب للتخلّي عن منطقها الاستعلائي ، بل عن نزعتها الكهنوتية، وتحيل الثانية إلى مواربة تلك النخب عن تحمّل المسؤولية، وكلتا المسألتين تفضيان إلى تبرئة نظام الأسد وتعزيز المزاعم التي تعتبره أفضل الموجود، بل صمام الأمان لمنع سوريا من الانفجار النهائي.
ولكن ثمة ما يحتاج إلى شجاعة ووضوح أكبر من رمْيَ التهم ، كان على تلك النخب أن تصدر بياناً رسمياً تدين فيه الشعب السوري وتقرّعه على حماقته التي أفضت به للقيام بثورة عام 2011. لعله من الصحيح أن نظام الأسد وحلفاءه الدوليين استطاعوا أن يهزموا ثورة السوريين – عسكرياً وسياسياً – كما استطاعوا بفعل وسائل القتل والدمار الجهنمية أن يورّثوا البلاد السورية حالة من البؤس والخراب ربما تمتد إلى عقود من الزمن، ولكن لا ريب أن هزيمة النخب هي هزيمة أخلاقية بامتياز.