ليس من جديد في الكتابة عن انقسام الشعب السوري إلى طبقتين؛ طبقة من الأثرياء ثراء فاحشاً، وطبقة من الفقراء المعدمين، تكاد الطبقة الوسطى في انكماشها المتواصل تتلاشى بينهما، فالأوضاع الاقتصادية في انحدار من قاع إلى قاع، وكأن لا قاع تتوقف عنده. هذا الانقسام يهدد السوريين الذين يعانون من تضاؤل القدرة الشرائية سواء كانوا من الموالين أو غير الموالين من مدى تأثيرها في حياتهم ولقمة عيشهم، عسى أن يكون الموالون أدركوا انهم شركاء في المحنة نفسها، وما ينال الآخرين ينال الجميع دونما تمييز. على كل حال أصواتهم تتعالى يومياً، لكن هل سيدركون إلى من يوجهون الاتهام، فما يحصل يتجاوز وزارة، أو مدير مؤسسة وموظفين إلى نظام قائم على القمع والنهب.
يسهم وجود النظام في تعميم فساد يتفاقم منذ أكثر من نصف قرن، بلغ ذروته في السنوات الأخيرة، ومقبل على أكثر من ذروة في السنوات القادمة، في حال استمراره على هذا النحو، وربما أسوأ، فالطبقة الحاكمة ومن يلوذ بها، يعملون ضمن خطة محكمة، وفي الوقت نفسه عشوائية على نهب السوريين والبلد بكافة الوسائل، وكيفما اتفق، سواء بإرهاق المواطن بالضرائب والغلاء وتقنين الكهرباء والخبز والمحروقات وتعسر المواصلات. أما أثرياء الحرب وما بعد الحرب، فما زالوا يستفيدون من الأزمات المتوالية على الرغم من إزاحة مجموعات منهم، جرى تقليص بعضها وترحيل بعضها الآخر، لصالح مجموعات قادمة ستلعب الأدوار نفسها؛ الاستفادة من أزمات تتوالى دونما انقطاع، والجميع الراحلون والقادمون يدركون أن التعبير عن ولائهم لا برهان عليه إلا بانتزاع مقدرات الناس التي تعينهم على البقاء، لتصب في حسابات الطبقة الحاكمة، بإيجاد مصادر تدر المال يتقاسمونها معا، وابتكار وسائل لاستنزاف الناس تقتطع من قوتهم اليومي، وحرمانهم من كل ما يمكن توفره، ويضنون به عليهم، فعدم توافر الكهرباء، والإغداق بها على مناسبات زيارات الرئيس واحتفالات النصر والانتخابات ومظاهرات التأييد، ثم عرضها للبيع عن طريق المولدات لقاء الدفع أضعافا مضاعفة، ما هي إلا ابتزاز لحاجة المواطنين الذين لا يكاد شح مداخيلهم يغطي احتياجاتهم المعيشية اليومية، كل هذا لحساب وسطاء ومستوردين مدعومين من مراكز قوى مخابراتية تغطي أرجاء سوريا.
لا تعيش النسبة الأكبر والساحقة من السوريين من رواتب الدولة المتدنية، ولا ما تدره عليهم أعمالهم الإضافية، كما لا تساعد البطاقة الذكية على تخفيف الأعباء عنهم
لا تعيش النسبة الأكبر والساحقة من السوريين من رواتب الدولة المتدنية، ولا ما تدره عليهم أعمالهم الإضافية، كما لا تساعد البطاقة الذكية على تخفيف الأعباء عنهم، ما يساعدهم على الحياة هو التحويلات التي تأتيهم من أولادهم وأقربائهم في الخارج، وغالبا من الشبان الذين اضطروا للهجرة بسبب ظروف الحرب والقمع والجندية إلى أجل غير معلوم. هذه التحويلات من العملات الأجنبية يمتصها النظام بشتى الوسائل، ولا يوفر القوانين في افقادها قيمتها الحقيقية من خلال التلاعب في معدلات الصرف. بينما لا جدوى من لجوء المواطن إلى القضاء كمحاولة لإنصافه من المستغلين، فالقضاء والشرطة والوزارات المختلفة، تتحرك بقوة الرشاوى لا بقوة القانون. أما الجامعات وكانت معاقل للشبيحة من طلبة كتائب البعث، فتعج ببؤر استفحل فسادها، تفوح روائح فضائحها المالية والجنسية، من جراء استغلال الطلبة والطالبات.
تجمع سوريا على الرغم من انقسامها إلى شطرين متنافرين ومتجاورين بينهما حواجز شاهقة، سوريا سريالية، وحدها قادرة على إدراجهما في مشهد تحت الأنوار الساطعة، ينغل فيه الظلام، تختلط فيه كوابيس الرعب والجنون والفقر والبذخ والعهر وأناشيد النصر، وعويل الأرامل وبكاء اليتامى، وحاصودة الديك، والتعذيب حتى الموت وفتاوى الجهاد، والمجازر، وحفلات الزفاف الأسطورية، والمطاعم الفخمة، وفنادق النجوم العشرة، والمنتجعات الراقية، ومطربون ومطربات يتألقون تحت ظلال عاصمة الأمويين، تشقها مواكب التطبير والوعيد، وحلقات الدبكة، ومباهج التأييد المصطنع، ونساء وأطفال يأكلون من حاويات القمامة، وشبيحة يطلقون الرصاص يزهون بأمجاد النظام، فقد انتصر على الشعب، بينما أعوانه يصرفون جهودهم في استفزاز الناس وتيئيّسهم من الحياة والمستقبل. هذه عاقبة الحرية.
توغل سوريا في الموت البطيء، وهذا البطيء يتباطأ، يخوض في عذابات الناس وآلامهم، تتستر عليه المظاهر الحضارية لنظام مفلس من الأخلاق، يتوافد إليه المطربون العرب، ليتغنوا بالنظام المبارك بالمقاومة والصمود، علّهم يحظون بفرصة للشهرة على أنقاض الدمار، وأطلال الخراب، وجثث الضحايا. بينما هناك ما يزيد عن مئة ألف مواطن مختف قسريا مضى عليهم ما يزيد عن عشر سنوات في المعتقلات. تشكل اتهاما على ارتكابه جرائم ضد الإنسانية.
فلمن تصدح أصوات المطربين العرب؟