منذ انطلاقة الموجة الجديدة للحراك السلمي الوطني في مدينة السويداء (في العشرين من شهر آب الفائت) بدأ الوعي الثوري السوري في طور جديد من التفكير لتطوير حركة الاحتجاجات الشعبية من حيث تنظيمها وإدارتها بما يخدم تلافي ما هو متوقع من أخطاء من جهة، وكذلك من جانب ديمومة هذا الحراك واتساعه وشموليته من جهة أخرى، وبالفعل وجدنا إرهاصات واضحة تحيل إلى قدرة جيدة لدى القائمين على الحراك في السويداء على التنظيم والعمل على ضبط المواقف وتشكيل اللجان التي تقوم على إدارة النشاط الشعبي فضلاً عن اللجان التي تتولى الاهتمام بالشأن الأمني والمدني العام. ولعل ما عزز تمحور الآمال على حراك السويداء هو الاستجابة السريعة والتفاعل الحي للعديد من المدن والمناطق السورية للتضامن مع حراك جبل العرب.
ولعل أبرز تلك الاستجابات من حيث الشمولية هي مدينة درعا التي لم يحل تواجد قوات النظام فيها دون انتفاضة أهلها ليشكلوا مع السويداء امتداداً جغرافياً واسعاً في الجنوب وصوتاً واحداً يعيد إلى الأذهان والنفوس معاً وهج الثورة السورية إبان طورها الذهبي في آذار 2011. أضف إلى ذلك استجابات الشمال السوري الخارج عن سلطة نظام الأسد وتحوّله في يوم الجمعة في الخامس والعشرين من الشهر الماضي إلى كتلة ملتهبة من المظاهرات التي بدأت تمتد إلى مدن الشمال الشرقي كالرقة ودير الزور، الأمر الذي أبقى الأنظار والأذهان مركزةً ومترقبةً أن تصل شرارة الحراك السلمي إلى دمشق وحلب والساحل السوري الذي بدأ يشهد تحوّلاً تدريجياً نحو انحيازه لحركة الاحتجاجات الشعبية.
لا يمكن لأحد نكران الاحتقان الشعبي لدى سكان المنطقة عموماً من ممارسات سلطة قسد واستمرارها في نهجها الإقصائي وتفرّدها في حيازة القرار، فضلاً عن تدهور الأحوال المعيشية وندرة الخدمات العامة لدى أهالي المنطقة
إلّا أن هذه اليقظة الجماهيرية التي بدأت ترسم منعطفاً جديداً في سيرورة الثورة سرعان ما انشطر الاهتمام بها حين باغتتها الأحداث الدامية من جرّاء القتال القائم في محافظة دير الزور، هذا القتال الذي بدأ على نطاق محدود بين مجلس دير الزور العسكري وقوات قسد، لكن سرعان ما أخذ يتسع وينحو باتجاه حرب حقيقية بين مجموعة من العشائر العربية وقوات قسد. ربما كان من الصحيح أن هذه الحرب تقوّمت على تراكمات عديدة سابقة ووجدت في عملية اعتقال أحمد الخبيل (قائد مجلس دير الزور العسكري ومجموعة تابعة له) الشرارة المناسبة، إذ لا يمكن لأحد نكران الاحتقان الشعبي لدى سكان المنطقة عموماً من ممارسات سلطة قسد واستمرارها في نهجها الإقصائي وتفرّدها في حيازة القرار، فضلاً عن تدهور الأحوال المعيشية وندرة الخدمات العامة لدى أهالي المنطقة، الأمر الذي يمكن أن يضفي كامل الشرعية على أي حركة احتجاجية للمواطنين، ولكن من جهة أخرى ثمة حقائق لا يمكن نكرانها، توجب النظر بمزيد من الدقة، لعل أبرزها:
أولاً – الخلاف بين المدعو أحمد الخبيل وبين قوات قسد لم يكن خلافاً سياسياً أو فكرياً، بينما هو خلاف على حجم النفوذ من جهة، وكذلك على سلوك الخبيل الذي لم يكن سلوكه مزعجاً لقسد فحسب بل للكثيرين من العشائر التي انخرطت في القتال نصرة له، فضلاً عن أن الخبيل ومناصريه من القبائل كانوا من ضمن قوات قسد ومن المنضوين تحت لوائها حتى تاريخ انطلاقة القتال بينهما.
ثانياً – لا يمكن الزعم أن موقف العشائر العربية موحدٌ، إذ ثمة من العشائر من لا تزال تقف مع قسد، ومنها من هو في الأصل يقف مع نظام الأسد، ومنها من أعلن القتال على قسد وهو الآن ينادي بطردها من المنطقة.
ثالثاً – لندع جانباً فكرة أن نظام الأسد له دور مباشر في تأجيج هذا الاقتتال أم لا، إلّا أنه لا يمكن نفي الفائدة التي يجنيها الأسد من هكذا اقتتال، بل ربما بدا يراقب ما يجري في الميدان وهو ينتظر اللحظة المناسبة ليكون البديل عن قسد في تلك المنطقة، أضف إلى ذلك أن ما يجري في دير الزور من شأنه أن يشتت الاهتمام بما يجري في السويداء ودرعا وبقية المدن والبلدات من مظاهرات، بل ربما أعتقد أن اشتعال شرقي سوريا بحرب مباغتة كهذه من شأنه أن يقطع الطريق على استمرارية الحراك الشعبي أو تهميشه على الأقل.
رابعاً – ولعل الأهم من ذلك كله هو أن مجمل القبائل العربية التي تقاتل قسد وتسعى لطردها من المنطقة، إنما تقوم بذلك بدافع الفزعة والحمية القبلية ولا ينفي ذلك الدوافع الأخرى كالمطالب المعيشية أو المطالبة بمشاركة أوسع للعرب في إدارة مناطقهم والاستفادة من خيراتها، ولكن ما يغيب عن هذا المسعى العشائري هو المشروع السياسي، إذ لا وجود لقيادة سياسية للعشائر وإن كان ذلك لا يلغي التنسيق والاتفاق على المطالب، ومن هنا يمكن التساؤل: لو استطاع رجال العشائر إخراج قسد من جميع مناطقهم، فهل لدى تلك العشائر القدرة على إجراء حوكمة سريعة بغية إيجاد البديل الفاعل والنظيف الذي يمكن أن يقوم بإدارة تلك المناطق دون أن يكون بحاجة للدخول في ولاءات خارجية من شأنها أن تكرر النسخ الحكومية السابقة؟
وهل يمكن الركون إلى أن تلك المناطق التي انتزعها رجال القبائل من قسد سوف تبقى تحت نفوذ وإدارة أبناء المنطقة ذاتهم، وأن نظام الأسد لن يتمدد لأن يكون هو البديل؟
لعل هذه الأسئلة وسواها تقود إلى الاعتقاد بأنه لا يمكن التكهّن بما ستؤول إليه الأمور حتى لو سيطر رجال العشائر على الموقف العسكري والميداني على العموم.
واشنطن أرادت الانكفاء عن التدخل المباشر فيما يجري وآثرت انتظار الوقت المناسب لكي تتدخل، بغية الضغط على قسد وإجبارها على أن يكون حضور المكون العربي في الإدارة الذاتية أكثر ثقلاً
ما هو لافتٌ للانتباه هو غياب موقف أميركي واضح مما يجري من قتال في منطقة واقعة تحت نفوذه، بل هو صاحب الكلمة الأخيرة والحاسمة في تقرير مصيرها، ولعل تفسير البعض بأن واشنطن أرادت الانكفاء عن التدخل المباشر فيما يجري وآثرت انتظار الوقت المناسب لكي تتدخل، بغية الضغط على قسد وإجبارها على أن يكون حضور المكون العربي في الإدارة الذاتية أكثر ثقلاً، وأنها بالنتيجة سوف تجمع رموز بعض العشائر المؤثرة من جهة والمسؤولين المتنفذين لدى قسد من جهة أخرى، لتعيد تشكيل مجلس عسكري بدون أبو خولة وجماعته؟ ربما يبدو هذا الإخراج متوقعاً لدى كثيرين، ولكن هذا الإخراج أيضاً لن يكون ضامناً من عودة القتال طالما أن العديد من قبائل المنطقة بدأت تعتقد بالفعل أن وجود كيان قسد لم يعد مُحتكراً للسلطة فحسب، بل هو مصدر تهديد لهوية المواطنين والمضي في إذلالهم وعدم إيلائهم أي دور حيوي في إدارة مناطقهم.
ربما تكون الأيام القليلة المقبل حاملة للكثير من المستجدات بخصوص دير الزور، ولكن ما هو ثابت هو أنه مهما ارتفعت وتيرة الأحداث في دير الزور، فإن شطراً كبيراً من السوريين سوف تظل قلوبهم وأذهانهم متجهة نحو السويداء وبقية المدن الثائرة، ليس إهمالاً أو عدم اكتراث لما يجري في شرقي سوريا، بل لأن الطور الجديد من الحراك السلمي في سوريا هو الحدث الأشمل والقضية الكلية التي يمكن أن يكون ما يجري في دير الزور أحد تفصيلاتها.