في منتصف شهر آب من العام الفائت، انطلق الحراك الشعبي في مدينة السويداء مُعلناً عن بداية منعطف جديد في مواقف أهالي المدينة حيال الشأن العام في سوريا، وحيال الواقع المعيشي للسكان.
وعلى الرغم من مشروعية التظاهرات التي بدأت بزخم كبير وبجهد تنظيمي وانضباط دقيق، إلا أنها ربما فاجأت الكثيرين، وذلك من جهة الأسئلة التي ظلت بلا جواب شافٍ آنذاك. وربما حتى الأجوبة التي قُدمت عن تلك التساؤلات لم تكن بالغة الإقناع، مثل: ما الذي جعل هذا الحراك ينطلق بهذا الزخم بعد مرور اثنتي عشرة سنة من انطلاقة الثورة؟ ثم ما جدوى المظاهرات السلمية بعد أن أصبحت الجغرافيا السورية خاضعة لتقاسم النفوذ الدولي، وأصبحت القوى والكيانات المحلية السورية تابعة لنفوذ الدول المرابطة في سوريا، الأمر الذي أطاح بزمام المبادرة من أيدي السوريين؟ وما الذي سيجعل العالم ينصت لأصوات مدينة في جنوب البلاد لا تملك أي قدرة مادية (عسكرية أو اقتصادية) على التأثير سواءٌ على السلطة الحاكمة أو على سلطات الأمر الواقع الأخرى؟ ولعل السؤال الأكثر حضوراً: ما هو العمق الاستراتيجي الذي يستند إليه حراك السويداء؟ أهو اعتماد ضمني على دعم خارجي دولي أو إقليمي، أم هو ركون إلى عدم تجرؤ قوات الأسد على الاعتداء على السويداء والتنكيل بأهلها كما فعل بغيرها من المدن السورية، كون السويداء تحظى بخصوصية طائفية طالما زعم نظام الأسد أنه هو الضامن لأمنها وأمن سواها من الطوائف الأخرى غير السنية في مواجهة الإرهاب؟ مثل هذه الأسئلة وسواها قيل فيها الكثير، ولكن قد يُقال أنه لم يُقل شيء، للدلالة على أن الأجوبة الحقيقية ربما تفصح عنها سيرورة الحراك ومآلاته.
عجزت القوى السياسية والنخب السورية الثقافية على العموم عن مواكبة الحراك الشعبي في بداية انطلاقة الثورة عام 2011.
خطوات نحو التأطير
في الخامس والعشرين من شهر تموز الماضي، أصبح للحراك مرجعية سياسية تمثلت بانتخاب هيئة سياسية، في دلالة واضحة على أن انتفاضة السويداء أفضت إلى مرحلة التأطير والتنظيم، وهي خطوة متقدمة في سياق العمل الثوري.
في سياقٍ موازٍ، ولكن على الضفة الشمالية من البلاد، انطلق حراك شعبي كانت قد بدأت إرهاصاته منذ شهر آب من العام 2022 على أعقاب دعوة وزير الخارجية التركي إلى مصالحة مع نظام الأسد، ولكنه ظل حراكاً متقطعاً أشبه بردّات الفعل الحانقة. ثم تراكم هذا الحنق نتيجة جملة من العوامل، لعل أبرزها الاستياء الشعبي العام من الجهات المتنفذة في تلك المناطق والحالة الفصائلية العسكرية وسوء الإدارة وانعدام مستوى الأمن والمعيشة، إلى أن جاء الأول من تموز الماضي ليأخذ حراك الشمال شكلاً أكثر تبلوراً بفعل عاملين سياسيين مباشرين، دون التقليل من شأن العوامل المذكورة سابقاً. أولاهما الدعوات التركية الرسمية المتكررة نحو التطبيع مع نظام الأسد، والثاني يتمثل بما تعرض له اللاجئون السوريون في تركيا من اضطهاد من قبل أصحاب الدعوات العنصرية. وقد أطلق القائمون على حراكهم المفتوح تسمية "اعتصام الكرامة"، الذي بات النشاط الأبرز في كل من اعزاز وعفرين ثم امتد إلى مدينة الباب والراعي وبلدات أخرى.
وفي خطوة ربما تكون مماثلة من بعض جوانبها لخطوة القائمين على حراك السويداء، كان هناك جهد ومسعى حثيث للقائمين على الحراك في الشمال نحو الخروج من حالة العفوية والفوضى للانتقال إلى التأطير من حيث الجانب التنظيمي، وكذلك نحو تحديد الأهداف والانتقال بمطالب الحراك من الحالة العائمة إلى مرحلة البرامج الأكثر تحديداً ووضوحاً. وقد أفضى هذا المسعى إلى تشكيل قيادة مؤقتة لحركة المظاهرات، إضافة إلى تشكيل لجنة تحضيرية تعمل على وضع خطة لإنشاء هيئة عليا لقيادة الثورة، وذلك في سياق المسعى العام لتجاوز الكيانات الرسمية للمعارضة التي باتت في نظر الحراك الشمالي فاقدة لمشروعيتها فضلاً عن ارتهانها للخارج وتنكرها للمصلحة الوطنية السورية.
جميع الكيانات الرسمية للمعارضة باتت تنظر إلى مظاهرات الشمال بعين الريبة، إن لم نقل العداء المعلن أحياناً والمستتر أحياناً أخرى.
تحديات مشتركة
التساؤلات ذاتها التي أُثيرت حول انتفاضة السويداء عند انطلاقتها عادت من جديد لتخيم على انطلاقة تظاهرات الشمال. بل ربما يصحّ القول إن حجم التحديات التي واجهت حراك الشمال وما تزال، هي أكبر قسوةً، من جهة أن مناطق الشمال واقعة تحت سلطة أمر واقع تتنازعها إرادات وقوى مختلفة تتوزع بين تدخلات الفصائل العسكرية وبين الحكومة المؤقتة التي تبدو في معظم الأحيان مقيدة، وكذلك بين السلطات التركية التي تعد هي مصدر القرار والتحكم من خلال وسطاء يتم تعيينهم من جانب الحكومة للإشراف على إدارة تلك المناطق.
كما تجدر الإشارة إلى أن جميع الكيانات الرسمية للمعارضة باتت تنظر إلى مظاهرات الشمال بعين الريبة، إن لم نقل العداء المعلن أحياناً والمستتر أحياناً أخرى. بل ربما نظر الائتلاف وملحقاته إلى الحراك على أنه ضرب من التمرد على السلطة الرسمية، الأمر الذي يجعل من عملية استمرار الحراك الشعبي ضرباً من المغامرة في نظر الكثيرين. في حين أن حراك السويداء يجري في مناخ أمني أقل قسوة بسبب غياب سلطة النظام أو أي سلطة أمر واقع أخرى، فضلاً عن التجانس الاجتماعي الذي يعود إلى الموروث الديني في المدينة.
إن مجرد العودة إلى التظاهر بعد ثلاث عشرة سنة من المقتلة السورية، هو دليل بالغ القوة على تجذر قضية الحرية في قناعات السوريين وصلابتها في مقاومة الاندثار والتلاشي.
في المآلات الراهنة لحركات التظاهر
لعله من الصحيح أن حركات الاحتجاج الشعبي سواء في السويداء أو في الشمال السوري لم تستطع حتى الوقت الراهن أن تحدث فارقاً نوعياً سياسياً من شأنه أن يكون مؤثراً في التعاطي مع القضية السورية، لا محلياً ولا دولياً. وما هو مؤكّد أيضاً أن تلك الاحتجاجات ظلت محصورة في مناطق جغرافية محددة محكومة بتقاسم نفوذ القوى المسيطرة في سوريا. وما هو صحيح أيضاً هو غياب الجسور المتينة بين حركات التظاهر من جهة، والقوى والأحزاب والنخب الثقافية والسياسية من جهة أخرى. ولعل افتقاد هذه الجسور هو نتيجة تجاهل أو تنكر القوى والنخب للحراك لأسباب لا يتسع هذا المقال للحديث عنها. ولكن على الرغم من ذلك كله، فإن ما جسده الحراك الشعبي في جنوب البلاد وشماله يعني الكثير، وهذا الكثير الذي نعنيه ربما لا يندرج في الحسابات ذات المخرجات الحسية المباشرة، ولكنه يدل على وقائع عيانية لا يمكن إنكارها. لعل أبرز تلك الوقائع:
أولاً – الشعب السوري صاحب قضية عادلة متجذرة في النفوس والعقول. يمكن الإجهاز على أصحابها قتلاً وتهجيراً واعتقالاتٍ وتضييقاً، ولكن لا يمكن الإجهاز على القضية نفسها لأنها جذوة تحت الرماد سرعان ما تشتعل كلما لامستها رياح المأساة السورية. إذ إن مجرد العودة إلى التظاهر بعد ثلاث عشرة سنة من المقتلة السورية، هو دليل بالغ القوة على تجذر قضية الحرية في قناعات السوريين وصلابتها في مقاومة الاندثار والتلاشي.
ثانياً – لقد تدافعت إلى الأرض السورية خمسة جيوش أجنبية، بالإضافة إلى ملحقاتها الميليشياوية وأدواتها المحلية، وأمعنت في امتهان السوريين حتى حاصرتهم في قوت أطفالهم. لكنها عجزت عن تقديم أي مبادرة أو خطوة تجاه الحل المنشود، ما يعني أن الاعتماد الصرف على الحلول الدولية لن يحمل إلا المزيد من الخراب.
ثالثاً – لعل افتقار الحراك الشعبي عموماً إلى البعد الاستراتيجي المتمثل بالمساندة الإقليمية أو الدولية يجسد – من جهة ما – إحدى نقاط الضعف في هذا الحراك. ولكن يمكن التأكيد في الوقت ذاته أن هذا الافتقار للعمق الاستراتيجي كان أحد أسباب انطلاقة الحراك أيضاً. ذلك أن شعور السوريين المزمن بالخذلان وكذلك الشعور بتواطؤ أطراف عديدة جعلهم يشرعون في العمل لخلق عمقهم الاستراتيجي المتمثل بقوة السوريين واعتمادهم على أنفسهم لتشكيل نواة فاعلة من شأنها أن تكون هي الطرف المبادر وليس الذي ينتظر المبادرات الوافدة من الخارج.
رابعاً – لئن عجزت القوى السياسية والنخب السورية الثقافية على العموم عن مواكبة الحراك الشعبي في بداية انطلاقة الثورة عام 2011، بسبب ضعفها وتشتتها وافتقادها القدرة على المبادرة، فإن استمرارها اليوم في تجاهل الحراك الشعبي تارةً والتعالي عليه ونعته بالشعبوية والتقليل من شأنه تارة أخرى، لم يعد يعني مجرد عجز يمكن تفهم أسبابه ودواعيه، بل هو انعطاف نحو خذلان الحراك والمساهمة في مراكمة تحدياته.