تعقيبًا على مقالة الكاتب حسام جزماتي في الثالث والعشرين من نيسان تحت عنوان "العلويون السوريون: من عيد الرابع إلى عيد الجلاء"، والتي أعقبها الكاتب حسان القالش بمقالة في الثامن والعشرين من الشهر نفسه تحت عنوان "في تلاشي أفراح الربيع عند العلويين"، لا بد من الإشارة إلى نقاط أخرى ربما أغفلها الكاتبان أو كان لهما رأي آخر في تراجع المظاهر الاحتفالية في هذا العيد.
بالنسبة للطائفة العلوية لم يكن لديها مرجعية دينية واحدة، ولم يكن هناك نظام إداري وقوانين ناظمة لحياة الطائفة، بل كانت عبارة عن جماعات قروية تعيش حياة ريفية تعتمد على الزراعة بشكل أساسي، ولكل منطقة عاداتها الخاصة ومنظومة قيمها المتأثرة إلى حد ما بمحيطها الجغرافي والديموغرافي. وعيد الرابع من نيسان هو عيد قديم في الذاكرة الجمعية يحتفل بعودة الحياة إلى الطبيعة، فما الذي يبهج سكان الأرض اللصيقين بها ويعيشون من خيراتها غير عودة الحياة وتباشير المواسم التي تجود بها الأرض؟ وفي طقوس هذا النوع من الاحتفالات يبدو جليًا النشاط الجمعي الذي بواسطته يتم إحياء قيم أخلاقية ووجودية. فهو ليس عيدًا دينيًا ولا مذهبيًا، بل هناك العديد من الأعياد الدينية التي يحييها معظم أفراد الطائفة ولها من الأهمية مكان مميز كعيد الفطر بعد صيام رمضان.
يقول الكاتب حسان القالش" لم يكن بلا دلالة تعميم منهج مادة التربية الدينية، السنيّة المنشأ، في مدارس العلويين."، بينما الواقع أن العلويين لم يكن لديهم مدارس خاصة بهم، كانت المهمة التعليمية في القرى تقتصر على ما يتم تلقيه في "الكتّاب"، من حفظ للقرآن وللشعر العربي القديم. أمّا المراحل المتقدمة والتي تبدأ من المرحلة الابتدائية فكان القادر من أبناء الطائفة، وكانوا قلة، يرسلون أبناءهم إلى أقرب مدينة للتحصيل العلمي بحسب المتاح والمقدور عليه، وكان قلة من يستطيع الوصول إلى الجامعة، في وقت كان لدى أفراد الطائفة بشكل عام، وهذه ميزة مشتركة لدى الأقليات أيضًا، طموح وإلحاح على التعليم لنيل الشهادات التي تخوّلهم في الدخول إلى الحياة المدينية والمساهمة فيها.
كان هناك إصرار من النظام على تكريس المناسبات المتعلقة بكينونته كأولوية وتحميلها المعاني القومية والوطنية والتقدمية والفضل في صناعة سوريا الحديثة كأحد الممارسات التي تحقق أجندته الخاصة في السيطرة والرهبة والفردانية المعجزة.
وقت كانت المدينة تاريخيًا قد صاغت نظم حياتها ووزعت المهام والوظائف الاجتماعية على أبنائها من حرفيين ومهنيين وصنايعية وتجار وغيرهم. ولم يكن لابن الريف مكان في هذا التشكيل الوظيفي الاجتماعي. وكانت الغالبية التي تحظى بفرصة التعليم تكتفي بالشهادة الإعدادية أو بأهلية التعليم التي كان الطالب يحظى فيها بفرصة سكن وراتب أثناء دراسته ريثما يتخرج وتكون الوظيفة بانتظاره.
ازدادت فرص التعليم، وازدادت في الوقت نفسه فرص دخول مجتمع المدينة لأسباب وفرتها الحداثة وازدياد ربط الريف بالمدن وفتح المدارس في القرى، لكن مع هذه الحداثة كانت بدأت الأسئلة الوجودية تطرح نفسها بقوة على غالبية الشعب السوري المصاب بخيبة كبيرة والمسكون بروح الهزيمة بعد نكسة حزيران، معظم جيل الشباب حينها هرب إلى الأحزاب المطروحة في الساحة، خاصة اليسارية منها بما تقدم من شعارات الحرية وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية والتقدم وغيرها، وكانت الروح الغالبة لدى المجموعات الشبابية حينها ربما كاحتجاج على الهزيمة التي يحمل مسؤوليتها الآباء، تسعى إلى رفض السائد والموروث، رفض الأسرة والدين والطائفة والدولة والسلطة، خاصة بعدما تكرس حكم النظام الشمولي الذي فرض الحداثة من الأعلى من دون الالتفات إلى الشباب وطاقاتهم وإشراكهم في صنع مستقبلهم، وفرض بالقمع إرادته وإدارته، وكان أبناء الريف وأبناء الطبقة الفقيرة في سوريا يمثلون هذا الجيل الذي لم يحتمله النظام القمعي فلاحقه وحاصره وزج به في السجون، وكان أبناء الأقليات بشكل عام والطائفة العلوية بشكل خاص يشكلون النسبة الأعظم فيه، فلقد امتلأت سجون حافظ الأسد بهم.
النزوح إلى المدينة، والذي وفره الانفتاح بين الريف والمدينة من جهة، وزاده لاحقًا إهمال الريف في كل المناطق السورية وعدم الالتفات إلى دعم الحياة الاقتصادية القائمة أساسًا على الزراعة والرعي في بعض منها، مما أدى إلى هذا النزوح وتشكيل أحزمة الفقر حول المدن الكبرى، بالإضافة إلى ما ذكرت وهو الميل إلى رفض الموروث أدى إلى تراجع الاهتمام بهذا العيد، ولقد تقلّص أكثر كنشاط جمعي بعد الثمانينات والصراع الدموي بين النظام وجماعة الإخوان المسلمين ممّا نجم عنه منع التجمعات التي كانت وما زالت تشكل تهديدًا بالنسبة إلى نظام قمعي.
لهذه الأسباب في رأيي، تراجع الاحتفال وليس كما قال الكاتب حسام جزماتي: "ونتيجة توسع وجودها في الجيش، وفي القطاع العام المتضخم، لم يعد تقويم الخصب لديها مرتبطاً بدورة الأرض بل بقبض الرواتب أول الشهر. ولم يعد موسم انعتاقها مستمداً من أدونيس وعشتار وفق إيقاع الطبيعة بل صار منظماً وفق نشرة ترفيعات الضباط، حين يتوالد الرائد من النقيب والعقيد من المقدم، في دورة خلق خاكية". ومن عاش في العقود السابقة في منطقة الساحل التي تتواجد فيها النسبة الأكبر من العلويين، يمكنه أن يرى إلى أي درجة جرى إفقار هذه الطائفة وربطها بالإكراه إلى عجلة النظام، فمن هم في موقع القيادة والسلطة السياسية والاقتصادية قلة قليلة، بينما أبناء الريف الساحلي بشكل عام جرى تبديد حياتهم، فهناك الكثير من المصانع والمعامل التي قضت على أراضيهم ولوثت بيئاتهم وقضت على مهاراتهم ومحاصيلهم، وجرّت أبناءهم ليعملوا في القطاع الخدمي فيها وفي أحسن الحالات كعمال عاديين أو متخصصين، وصار أكبر طموح لدى بناتها دخول مدارس التمريض أو الصف الخاص. والبقية من شبابها يُجرون بوسائل عديدة، طوعًا أو تطوعًا إلى الجيش والقوى الأمنية كعناصر فقط.
صحيح أن الجلاء كمناسبة رمزية يجب أن تشكل الصدارة في الأعياد الوطنية، بينما كان هناك إصرار من النظام على تكريس المناسبات المتعلقة بكينونته كأولوية وتحميلها المعاني القومية والوطنية والتقدمية والفضل في صناعة سوريا الحديثة كأحد الممارسات التي تحقق أجندته الخاصة في السيطرة والرهبة والفردانية المعجزة، لكن الجلاء كان مناسبة حملت في رمزيتها مشاعر الفخر والانتماء والشعور بالذات وكانت مناسبة جامعة لكل السوريين الذين ساهموا في صنعها باشتعال ثوراتهم ضد الاستعمار في مناطق سوريا كلها، وهو العيد الذي تعطل فيه كل دوائر الدولة وتجري فيه الاحتفالات في المدارس والمؤسسات العامة والمنابر الإعلامية، ويُدرس في المناهج التعليمية.
لا يمكن للسوري المتبصر الذي تمنع في السنوات الأخيرة ضدّ الانزلاق إلى أتون الاستقطابات الطائفية والمذهبية اللعينة، إلاّ أن يحزن على موت ألوان التعدد الثقافي السوري الضارب في القدم، ووأد قيمنا الحضارية.
لا يمكن الموازنة بين عيد الجلاء وبين عيد الرابع، فعيد الرابع قديم قدم الذاكرة الجمعية، بينما الجلاء عيد حديث، وعيد الرابع عيد اجتماعي بالدرجة الأولى، حتى لو كان يخص مجموعة بشرية، مع العلم أن الكثير من سكان المدن كانوا يشاركون في هذه الاحتفالية على الأقل بالنشاط التجاري المرافق لها، عيد لا يحمل أي طموح مستقبلي، بل في فترات ازدهاره كان الشباب العسكريون يحضرون بلباسهم العسكري وقد أشبعوه كيًّا كنوع من التباهي بعيد الجلاء الذي يحق للجيش السوري الذي كان التباهي به، ولا يمكن أن تعكره السياسة، ومع هذا فقد قضت عليه السياسة، سياسة نظام استبدادي اشتغل ليصير متعدد الوجوه بعد الثمانينات، تحالف فيه الاستبداد السياسي مع الديني مع الاجتماعي، وحتى الطائفي والمذهبي، ونحن اليوم نحصد نتائجه في السنوات السورية الدامية، كرد على شعب أراد الحياة.
لهذه الأسباب تراجع عيد الرابع البهيج، ولا يمكن للسوري المتبصر الذي تمنع في السنوات الأخيرة ضدّ الانزلاق إلى أتون الاستقطابات الطائفية والمذهبية اللعينة، إلاّ أن يحزن على موت ألوان التعدد الثقافي السوري الضارب في القدم، ووأد قيمنا الحضارية، وتدمير أوابدنا التاريخية التي تحكي قصة حضارة وتاريخ بقينا نتغنى بها وبأمجاده حتى أبيدت بنوايا حاقدة، حتى " أصابتنا العيون الحاسدة".