ما إنْ أعلنت الجهات المعنية بالإحصاء في هولندا أن خُمس جرائم "الشرف" في هولندا عام 2022 ارتكبها سوريون حتى هبت الصحف، المحسوبة على اليمين خاصة، لإعداد تقارير عن الموضوع، تلك مادة مغرية للقراءة في المجتمع الهولندي، وتصب في إطار الصورة المسبقة عن الرجل وعلاقته بالمرأة، والرغبة بتكريس الصورة النمطية: نحن مجتمع آمن واللاجئون هم سبب مشكلاتنا وخللنا!
تلك بضاعة "بياعة" لدى الصحف في وقت سيطرت عليه وسائل التواصل الاجتماعي على المشهد، ولكي تأخذ تلك الصحف بالموضوعية الإعلامية، لا بد من أخذ رأي عدد من الخبراء، ذوي الجذور السورية في الموضوع، لكن ما إنْ تقدم لهم وجهة نظر شارحة أو تحليلية حتى يعتذروا عن تثبيت رأيك في التقرير الصحفي!
وفي الوقت نفسه أهملت تلك الصحف ما يمر به اللاجئون أو يعانون منه، حين كانوا ينامون في الشارع قبل شهور أو حين تم تكديسهم في صالات رياضية أو سواها، وفي الوقت نفسه وُضع الأوكرانيون في الفنادق.
لكن هل حقاً حدث ذلك أم لم يحدث؟ هل الصورة مفتعلة كلياً؟
الواقع يقول: إنها ليست مفتعلة، بل تستند إلى وقائع من ضمن "باكيت اللجوء"، إذ لا أحد يدرب اللاجئ على اللجوء، لا أحد يشرح له مسبقاً ما اللجوء؟ لا أحد يقول له: إن اللجوء في وجه من وجوهه المؤلمة أن يسمح لابنك أو ابنتك أن يتناول الحشيش أمام عينك ابتداء من سن الـ 16 عاماً وكذلك لهما الحق في العلاقة الجنسية الكاملة ابتداء من هذا العمر بل أصغر من ذلك، واللجوء أن تتساوى في الحقوق والواجبات مع الآخر رجلاً أم امرأة ولا عذر لك في عدم قبول ذلك، لن يفيدك الحديث عن أنك اعتدت على ذلك أم لم تعتد. اللجوء أن يشتكي عليك ابنك أو ابنتك إلى الشرطة لأنك مارست نوعاً من أنواع العنف، "الصراخ يعد عنفاً"، اللجوء ألا يناول الزوج زوجته كأس ماء إنْ وجد أن في ذلك أمراً، واللجوء ألا يطبخ أحد للآخر إلا بعد أن يكرر المِنَّة تلو المنة!
حدثكَ اللاجئون السابقون عن جواز السفر وإمكانية أن تسافر إلى أي مكان دون فيزا، حدثوك عن المكافأة الاجتماعية، عن التأمين الصحي، عن منزل محترم، عن دولة لا تتخلى عنك.. هذا صحيح كله، فـ "الدول باكيت متكامل"، عليك أن تهيء نفسك لقبوله كله، وليس أن تقبل ما يناسبك وتترك ما لا يناسبك! لذلك ليس لك الحق أن تركتب جريمة الشرف أو ما يتعلق بها، كل شخص حر بجسده، هذا بلد الحرية الفردية، اخرج من أوهامك أيها الوصي!
الصورة الهولندية عن النساء في سوريا أنهن مواطنات بلا حقوق! ومن الصعب إقناع المجتمع الهولندي بغير ذلك
يشكل التنميط أحد طرائق التوصيف لسهولة التحليل، تداعب الإحصاءات تلك الصورة المتخيلة للشرقيين والمسلمين خاصة وفكرة العنف ضد المرأة، تحدثني صديقة تعمل كاتبة بالعدل حول أن الصورة الهولندية عن النساء في سوريا أنهن مواطنات بلا حقوق! ومن الصعب إقناع المجتمع الهولندي بغير ذلك، تلك دولة عميقة في داخل الأوروبي، ساعد عليها سرديات لاجئين كثيرين لمجتمعهم الأم ورغبتهم بمزيد من التدمير لصورته.
الرقم مرعب حقاً: 128 جريمة شرف بعام واحد؟ من المجموع الكلي 682 حالة، الشرطة ترجع ذلك إلى تدفق اللاجئين الذين يحملون عادات وتقاليد مختلفة عن المجتمع الهولندي، كذلك ترجعه إلى أن المجتمع السوري مجتمع حاد ومجتمع معتز بعاداته وتقاليده، وليس من السهولة أن يقبل السوري الاندماج مع المجتمع الجديد وقوانينه.
يقول خبير: المجتمعات المتشكلة والقوية أصعب بكثير على التغيير من المجتمعات التي تعد أوروبا مثلاً وقدوة، فالمعاناة مع السوريين كبيرة لأنهم يعدون أنفسهم في عدة جوانب أثقل وزناً من الأوروبي.
حل السوريون في المرتبة الثالثة بعد المغاربة والأتراك، السوريون حجزوا دروهم سريعاً في السجل العنفي في أقسام الشرطة الهولندية، وماذا يتوقع الهولنديون من شرائح اجتماعية عانت من القتل ورأته بعينها، كل عائلة لديها نكبتها الخاصة، وماذا ينتج العنف سوى العنف؟ ليس عدد الجرائم بدافع الشرف قليلاً، وهو ما معدله واحد بالألف من عدد السوريين بهولندا، ليس هذا سجلنا العنفي الوحيد في هولندا: العنف مع الأطفال، العنف مع النساء، العنف مع الجيران، الاحتيال على الضرائب، سرقات الشباب الصغار من المحالّ، العنف مع المجتمع المحلي، العنف مع الذات وجلدها.
تفيد الشرطة الهولندية أن جريمة قتل واحدة تم الحكم فيها العام الماضي لأسباب تتعلق بالشرف، في مدينة أرنهام. لا بد إذاً من مراجعة مفهوم الجريمة في القانون الهولندي التي تعني كل ما خالف القانون. أسأل أحد خبراء القانون عن إحصاء جرائم الشرف 2022 فيقول: كل جريمة أو جنحة حدثت بسبب ما يمكن وصفه بالشرف: اتصال هاتفي، اللباس، العودة المتأخرة إلى المنزل، مخالفة تعليمات الوالدين بسبب وجود شاب في حياة الصبية أو الشاب، ما يتعلق بالصور وإرسالها، الخروج بمشوار مع شخص آخر، النوم خارج المنزل، التهديد بالعنف إن حدثت علاقة جسدية، المطاردة، الضرب والاعتداء النفسي عبر الحرمان من الهاتف أو من الخروج من المنزل أو التهديد بالزواج القسري، أو التهديد بالإعادة إلى سوريا، أو التقاط صور، أو إساءة المعاملة، أو الشروع بالقتل، أو المضايقة المستمرة، والتنمر، التفتيش في حاجات الشخص أو منعه من ممارسة حرية الدخول والخروج، كل ذلك يدخل في باب العنف المتعلق بالشرف وفقاً للقانون الهولندي؛ حيث جريمة الشرف هي الجريمة التي تُقترَف بالكامل أو بشكل جزئي بناءً على مفهوم الشرف، بهدف الحفاظ على سمعة فردٍ أو عائلة، أو أقارب، أو مجموعة ما، أو استعادة هذه السمعة.
يرجع صديق يعمل في المعالجة النفسية تزايد الجرائم المتعلقة بالشرف إلى عدة جوانب من مثل وجود أحقاد قديمة بين أفراد العائلة، وعدم معرفة الحدود في الحياة الجديدة، والبطء في الاندماج، وكذلك اختلاف القوانين الناظمة لمفهوم الشرف والجسد، وحدود التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي وغربة اللجوء وانكسار الأحلام.
بالمفهوم السوري للجريمة أو الجنحة يعد الكثير مما حسبته الشرطة الهولندية جريمة، سلوكاً يومياً في الحياة السورية، يسلكه الرجل ويقع في دائرة حقوقه و"قوامته" الاجتماعية والدينية، والمحافظة على سمعة عائلته، وتلك مفاهيم لا قيمة لها في المجتمع الفرداني الذي يقوم على الحرية والمسؤولية الفردية جسدياً ونفسياً واجتماعياً، ثمة اختلاف مرجعي بين المجتمعين: هذا مرجعيته الدين والمجتمع والعائلة، الآخر مرجعيته القانون والفردانية.
ليست تلك مشكلات الجيل الأول من اللاجئين السوريين فحسب، لأن المغاربة والأتراك وصلوا إلى الجيل الرابع وما تزال المشكلة ذاتها، الأمر يعود إلى مفهوم الدولة وهل قوانينها أقوى من قوانين الدين والمجتمع؟ وهل يجب الأخذ بها كلها ومن يحدد ذلك؟
الدولة الهولندية حين سنتْ قوانينها أخذت بعين النظر تغيير المرجعيات وأن أبناء مجتمعها اختاروا هذا النمط. لا يمكنك أن تقنعه بفكرة وجود قانونيْن أو أسباب موجبة
لا يتفهم الشرطي الهولندي اختلاف المرجعيات وأن التوظيف السلطوي للمعرفة والهيمنة يمكن إعادة النظر به، وأن الجانب المعياري جزء رئيس من الثقافة المشرقية وأن اللجوء لا يعني التسليم الفوري بقوانين البلد الجديد، يهم ذلك الشرطي أمان مجتمعه، والالتزام بالقانون، تلك مرجعيته منذ أن ولِدَ، لا يستمع إلى فكرة أن مرجعياتنا مختلفة بشدة وأننا نحتاج إلى مرحلة انتقالية بالمفهوم العلمي والنفسي والجسدي، التغيير يحتاج إلى أجيال ولا يمكن أن يحدث بين يوم وليلة.
لا يمكنك أن تحاور رجل قانون بأن التغيير السريع يؤدي إلى انفجارات، يمكنك أن تحاور مفكراً أو رجل سياسة، تتحدث عن النمط معه، وأن الدولة الهولندية حين سنتْ قوانينها أخذت بعين النظر تغيير المرجعيات وأن أبناء مجتمعها اختاروا هذا النمط. لا يمكنك أن تقنعه بفكرة وجود قانونيْن أو أسباب موجبة.
الهيمنة والسلطة تنتج المعرفة الملائمة لها وفقاً لإدوارد سعيد، والدولة ها هنا اختارت التغيير من الأدنى، ونحن اعتدنا أن يكون التغيير من الأعلى بكل عقابيله، الحالة الوحيدة اللافتة سورياً للتغيير من الأدنى هي حالة الثورة السورية وقد تم قمعها وتكسيرها. ما سبق جعل اللاجئين يأخذون مظهر أشخاص معادين للسلطة والهيمنة والقانون أحياناً، بل ضد الحرية المطلقة. والأمر مرده في جوانب كثيرة إلى اختلاف المرجعيات ومفاهيم الحرية. كل من يعيش على تلك الجغرافية يجب أن يكون القانون الهولندي مرجعه ولا يمكن تفصيل قانون لكل شريحة لاجئين. يشجع الدولة على ذلك أن هناك شرائح لديها قابلية للاستعمار القانوني كما قال مالك بن نبي ذات يوم، وكذلك لديها إمكانية للتخلي السريع عن عاداتها وتقاليدها القديمة. المجتمع السوري مجتمع عنيد، لديه عادات متجذرة وتقاليده متينة كلما حاصرها القانون تنبق من مكان آخر.
كان الاستشراق أسلوباً غربياً للهيمنة على الشرق وإعادة بنائه كما قال إدوارد سعيد، اللجوء اليوم أسلوب هيمنة جديد وفرض سلطة بطرق قانونية، وها هو يولد ما بات يعرف بـ "عنف اللاجئين" الذين لم يمنعهم القانون عن ممارسة قناعاتهم القديمة، التي لا تتماشى مع المفاهيم الجديدة للحياة، ذلك سيستهلك وقتاً طويلاً كي يندمجوا أو على الأرجح أن يعودوا إلى مجتمعاتهم القديمة إنْ أتيحت الفرصة لهم.