في شهر أيلول من العام 2019، كانت الكثير من ثورات الربيع العربي قد وصلت إلى مرحلة المراوحة والانسداد، في ذلك الوقت أعاد الشارع اللبناني إنتاج بعض شعارات الربيع العربي التقليدية، وطالب بالإسقاط والرحيل، وطور مطالبه، ونظم نفسه في الشارع أكثر، بعد أن طبّقت الحكومة ضرائب جديدة على الشعب طالت الوقود والتبغ والإنترنت، وانطلق فيما يشبه الثورة في السابع عشر من تشرين الأول عام 2019، موجها أصابع الاتهام إلى الحكومة، متخطيا حاجزه الطائفي، فبدت الشعارات عابرة للطوائف، وقد طالت جميع رموز الحكم المعروفة التي عاصرت الحرب الأهلية اللبنانية، أو من حمل إرثها بحكم الانتقال من الأب إلى الابن، ولكن تلك الانتفاضة في الشارع لم تنتج أكثر من استقالة الحكومة، وتعسر قيام أخرى جديدة بعض الوقت، قبل أن يتم التآلف على مجلس وزراء جديد.. لم يؤثر تغيير الوزراء في صياغة الحكم، وطريقة تدوير الدفة في مكاتب الوزراء أو كبار المسؤولين، فتابعت العملة اللبنانية هبوطها بشكل متسارع، آخذةً معها النظام المصرفي اللبناني الذي بدأ بالتراجع إلى أن وصل البارحة إلى نقطة الانهيار التام، وإظهار العجز على الملأ، باستخدام مصطلح مأخوذ من النظام المالي الرأسمالي وهو إعلان الإفلاس!!.
في لحظة الإفلاس تتخطى الديون اللبنانية خمسة وثمانين مليار دولار، وهو رقم يتجاوز مرة ونصف الإنتاج القومي، بما يضع لبنان من ضمن ثماني دول يتجاوز دينها العام مرة ونصف إنتاجها القومي، ومن زملائها في نفس الفئة فنزويلا واليونان والسودان
في لحظة الإفلاس تتخطى الديون اللبنانية خمسة وثمانين مليار دولار، وهو رقم يتجاوز مرة ونصف الإنتاج القومي، بما يضع لبنان من ضمن ثماني دول يتجاوز دينها العام مرة ونصف إنتاجها القومي، ومن زملائها في نفس الفئة فنزويلا واليونان والسودان.. فشل النظام اللبناني طوال الفترة الماضية، ومنذ أن أعلن الشارع جرس إنذاره قبل سنتين، في إقناع رؤوس الأموال بدخول السوق اللبنانية، وهي الطريقة الوحيدة لإنقاذ لبنان من هذا المأزق المالي، فالسوق بحاجة إلى أموال طازجة تدخل من الخارج بهدف الاستثمار، وليس كقروض جديدة، وهو المتخم أصلا بالديون، وهذه الديون هي من أوصلت لبنان إلى لحظته المالية الحرجة هذه. كان القلق السياسي أحد عوامل إحجام رأس المال عن الدخول، ولا يتمكن اللبنانيون من انتخاب حكوماتهم، ضمن المدة المحددة التي تفرضها النصوص الدستورية، بسبب التسويات المفروضة والاعتبارات الميثاقية، فتمضي الفترة بعد الفترة دون أن يستطيع الرئيس المكلف أن ينجح في اختيار وزرائه بسبب عدم التوافق، بالإضافة إلى تقاليد انتخاب الرئيس اللبناني التي تعاني هي الأخرى، فلا بد في كل مرة من الانتظار لأشهر قبل أن يتم التوافق على رئيس، وهو إن حصل فليس بالطرق السياسية المعروفة، ولكن بطرق الترضية والحلول المؤقتة التي تتغير بحسب الظروف، مما يجعل الشارع السياسي اللبناني يعاني من درجة عدم تعيين واسعة تجعل رأس المال يرتعد ويبتعد.
وهناك إرث طويل ضارب في التاريخ اللبناني عن ممارسة الفساد الرسمي، حتى تحول الأمر إلى بروتوكولات متعارف عليها ضمن تركيبة الحكم، بحيث يمارس المسؤول سياسية مزاجية، ويبيح لنفسه المال العام، وهو يدرك أنه محمي بقوة نظام الأمر الواقع، ويكاد التمسك بالنظام الطائفي بهذه القوة يرجع إلى ما يقدمه من حمايات مطلقة للكثيرين، بحيث يبقى الفاسد بعيدا عن أيدي العدالة بفضل حماية الطائفة التي بدورها تعتمد على قوتها السياسية والعددية والـ"كوتا" المسجلة باسمها، والتي لا يمكن تجاوزها، وإلا فإن غضب الطائفة قد يجر إلى إغلاق الشوارع وتسكير المطار وقد يؤدي إلى استخدام السلاح في الشوارع.
منذ أكثر من خمسة أعوام ورجال الاقتصاد والسياسة يحذرون من لحظة كهذه، فقد كانت المؤشرات كثيرة ومتزايدة ومن الوضوح بحيث يمكن للجميع أن يراها، بما يعني أن الطبقة السياسية اللبنانية تدرك أنها ستواجه مثل هذه اللحظة، وقد أتت
منذ أكثر من خمسة أعوام ورجال الاقتصاد والسياسة يحذرون من لحظة كهذه، فقد كانت المؤشرات كثيرة ومتزايدة ومن الوضوح بحيث يمكن للجميع أن يراها، بما يعني أن الطبقة السياسية اللبنانية تدرك أنها ستواجه مثل هذه اللحظة، وقد أتت، فوجدت نفسها أمام خزينة فارغة، ومحافظ البنك المركزي لا يمتلك أكثر من أثاث مكتبه، والمطلوب منه الآن إدارة الحكومة ماليا، بما عليها من التزامات لتشغيل نفسها، وربما مواجهة الشارع الذي قد لا يكتفي هذه المرة بإحياء بعض الشعارات والسير بها، بل قد يتحول الحال إلى ثورة جياع ومفلسين وبلا أمل.