موازاة مع دخول قانون قيصر حيّز التطبيق الفعلي بدءاً من منتصف حزيران الجاري، يعود الحديث مجدّداً عن جدوى هذا القانون، وعن تداعياته، وما مدى تأثيرها، سواءٌ على نظام الأسد وحاشيته السلطوية، أم على الشعب السوري. ولعلّ اللافت للانتباه أن المنحى العام للحديث عن تداعيات قانون قيصر، يكاد ينحصر في الجانب الاقتصادي فحسب، وهذا أمر طبيعي جداً، في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للسوريين، إذ لا أحد يستطيع التنكّر للمعاناة الشديدة التي يواجهها المواطن السوري في سبيل تأمين لقمة عيشه، عدا تأمين وسائل ومقوّمات الحياة الضرورية الأخرى، كما لا يستطيع أحدٌ أن يتجاهل الضرر الذي سيطول السوريين جراء تطبيق هذا القانون، ليس لأن الغاية من تفعيل العقوبات تستهدف المواطنين، بل لسبب بسيط، مؤداه أن نظام الأسد هو من يمسك بجميع مرافق الاقتصاد في البلد، ويستثمرها ويوظفها في الوجهة التي تخدم ديمومته وبقاءه، وتلبي رغباته غير المحدودة في السرقة والفساد دون أي رادعٍ كان، وبالتالي، فإن أية ضغوطات إضافية تستهدف النظام، سيحاول تحاشيها، والابتعاد عن تأثيراتها المباشرة، تاركاً صدماتها الأول ترتطم على رؤوس المواطنين، ولعل الأمر الذي يختصرعلينا الكثير، ولا يجعلنا نذهب بعيداً في التخمينات، هو أن الجهة التي سنّت قانون قيصر، لا تدّعي أنها تستهدف استئصال نظام الأسد، أو الانتصار لقضية السوريين، بل تريد لهذا القانون أن يكون عاملاً ضاغطاً على الأسد، لتحجيم النفوذ الإيراني في سوريا.
على أية حال، لا تهدف هذه المقالة إلى الاستغراق في بحث التداعيات الاقتصادية لقانون قيصر، بقدر ما تهدف إلى الإشارة المركّزة لتأثير هذا القانون وتداعياته على قضية أخرى، لا أعتقد أنها أقلّ شاناً أو أهميّة من الاقتصاد، وأعني قضية المعتقلين السوريين، تلك القضية التي ما يزال الاهتمام بها – بعيداً عن الصخب الإعلامي الفارغ - مقصوراً على فئة قليلة من الساسة والحقوقيين والناشطين، وكذلك لم تلق الاهتمام الموازي لأهميتها من المجتمع الدولي ومؤسساته الحقوقية والإنسانية، فضلاً عن خضوعها – عبر عقود من الزمن – لعمليات تواطؤ واستثمار وابتزاز من جانب العديد من الجهات المتنفّذة في الحالة السورية.
لم تكن ظاهرة الاعتقال والتغييب القسري – في سوريا – مجرّد إجراء عقابي، أو أسلوب رادع يلجأ إليه النظام لردع خصومه فحسب، بل إن البنية الأمنية لنظام الأسد تتقوّم في الأساس على ممارسة البطش، وسحق الآخر المختلف أو الخصم، وهذا ما جعل مسألة الاعتقال والتغييب والتصفيات الجسدية داخل السجون، هي الحوامل الحقيقية التي منحت نظام الأسد ديمومته في السلطة طيلة عقود من الزمن، فضلاً عن أن هذه الحوامل الأمنية ذاتها هي البرهان الأنصع على منهجية الجريمة ودورها الوظيفي والنوعي في الحفاظ على السلطة.
بعد انطلاق الثورة السورية في آذار 2011 ، فُتحت السجون السورية من جديد، وقد وثّقت اللجنة السورية لحقوق الإنسان ( 60000 ) حالة اعتقال في الفترة الواقعة ما بين 2012 – 2015
وعلى الرغم من الأعداد الهائلة للمعتقلين في سجون نظام الأسد منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، إضافة إلى الممارسات الإجرامية الفظيعة التي مارستها السلطات الأمنية بحقهم، وكذلك على الرغم من وجود مئات التقارير التي تحتفظ بها الجهات الحقوقية الدولية حيال الانتهاكات والجرائم بحق المعتقلين، فإنَّ ذلك كلّه لم يجعل المجتمع الدولي يخطو خطوة فعلية لمحاسبة السلطة الحاكمة أو مساءلتها، فخلال الفترة الممتدة من بداية العام 1980 وحتى نهاية العام 1991 ، دخل السجون السورية مئات الآلاف من المعتقلين، وتعرّض عدد كبير منهم للتصفيات الجسدية، إما تحت التعذيب الوحشي، أو أُعدموا بموجب أحكام صادرة عن محاكم ميدانية، فضلاً عن مجازر جماعية داخل السجون أودت بحياة المئات منهم كمجزرة تدمر في حزيران 1980 . وحين ورث بشار الأسد السلطة عن أبيه في جزيران عام 2000 ، طُويت صفحة المعتقلين والمغيّبين، ولم تكن هذه القضية مبعث اهتمام من المجتمع الدولي الذي بارك للأسد الابن وراثة السلطة، دون أي اكتراث لمئات الآلاف من الأمهات والآباء الذين فقدوا أولادهم ، وقسم كبير منهم لا يعلم إن كان المفقود حيّاً أم ميتاً.
بعد انطلاق الثورة السورية في آذار 2011 ، فُتحت السجون السورية من جديد، وقد وثّقت اللجنة السورية لحقوق الإنسان ( 60000 ) حالة اعتقال في الفترة الواقعة ما بين 2012 – 2015 ) كما وثقت العديد من المجازر الجماعية داخل سجن صيدنايا، لحالات حرْق جماعي لمئات الجثث من المعتقلين، فضلاً عن الشهادات العديدة التي قدّمها معتقلون ومعتقلات عن حالات مروّعة من التعذيب تُمارس بحق المعتقلين، إلّا أن ذلك كله لم يكن رادعاً للنظام من الاستمرار بالاعتقال التعسّفي وتصاعد عمليات التعذيب بحق السجناء، نظراً لغياب الرادع الفعلي أو المساءلة القانونية، ذلك أن ردّات الفعل الدولية الرسمية، وغير الرسمية، على جميع فظائع نظام الأسد، لم تتجاوز التنديد، والبيانات التي لم يتجاوز تأثيرها التخوم الإعلامية، ولعلّه بات من البدهي، أن سيادة منطق المصالح المادية المباشرة، وغياب النواظم القيمية والأخلاقية عن مساحات التعامل بين الدول قد جعل من قضية المعتقلين السوريين بعيدة عن أولويات المجتمع الدولي من جهة، كما أتاحت لنظام الأسد الإفلات الدائم من العقاب، والاستمرار في الجريمة من جهة أخرى.
ما هو مؤكّد، أنه خلال الحقبة الزمنية التي خضعت فيها سورية لحكم الأسدين ( الأب والابن)، أي خلال نصف قرن مليء بالقمع والإجرام والاعتداء على أرواح السوريين وممتلكاتهم وكرامتهم، لم يصدر من أي جهة أممية أو دولية، أي مبادرة فعلية رادعة أو عقابية لنظام الأسد بخصوص قضية المعتقلين، ولعل جميع المواقف الدولية حيال هذه المسألة لا تتخطى حدود الإدانات والتنديد، والمطالبات الكلامية بالإفراج عنهم، وحده قانون قيصر، الذي يصدر عن دولة عظمى، ويفرض عقوبات صارمة على نظام الأسد، وتكون قضية المعتقلين هي إحدى الدواعي الأساسية لتلك العقوبات، كما يكون الإفراج عن المعتقلين هو أحد الشروط الأساسية لرفع تلك العقوبات. وبعيداً عن التداعيات الفعلية لهذا القانون، ومدى جدية الولايات المتحدة الأميركية في تنفيذ تطبيقه، وكذلك بعيداً عن كل التكهّنات والتخمينات عمّا سيؤول إليه قانون قيصر، إلّا أن ثمَّةَ أمرين، لا يمكن تجاهلهما: أولاً، إن صدور هذا القرار يجسّد سابقة طالما سعى السوريون إلى تحقيقها، أي صدور مبادرة دولية فعلية من شأنها أن تلجم آلة القتل الأسدية عن المواطنين السوريين. وثانياً، إن قانون قيصر، إذ يعيد قضية المعتقلين إلى واجهة الاهتمام الدولي، إضافة إلى التأكيد على محاكمة المسؤولين ممن ارتكبوا جرائم بحق السوريين، إنما يعيد تلك القضية إلى نصابها الصحيح، ليؤكّد أنها لن تسقط بالتقادم، كما أراد لها نظام الأسد والمتواطئون الآخرون.