لا يتطابق بقاء الأسد في السلطة وقبول المجتمع الدولي بذلك، أو السكوت عنه، مع أي منطق سياسي، لا المصالح ولا الاستراتيجيات ولا توازن القوى، ثمة لغز يحيط بكل الوقائع، وثمة تفسير واحد لم يعد بالإمكان التفكير بغيره وهو أن السبب الوحيد لذلك البقاء هو منع السوريين المقيمين في المنافي من العودة إلى سوريا..
ربما يبدو ذلك طرحاً غريباً بعض الشيء أو تفسيراً يميل للسذاجة والعاطفة، ولكن إن حاولنا البحث عن أية أسباب أخرى، فسيؤول بحثناً إلى لا شيء.. المقصود بالسوريين هنا هم أولئك الذين لا يزالون يتمسكون بسوريا ديمقراطية مدنية متطورة، وهؤلاء هم السوريون الوطنيون الذين لم يختلط مشروعهم الوطني بأية شوائب أيديولوجية ولا بأية أجندات، وهؤلاء هم أعداء الأسد وخصومه الحقيقيون والمُوجِعون، وهم أيضاً الخصوم الحقيقيون للمشروع المضاد لسوريا شعباً وجغرافيا، وبمجرد تغيير الأسد لن ينتظر هؤلاء تحسن الحالة الأمنية أو الاقتصادية أو المعيشية في سوريا وسيعودون إليها في اليوم الذي يعقب السقوط، لأن العائق الوحيد أمام عودتهم لن يكون موجوداً.
الخوف من السوريين الوطنيين الذين يمكن أن يغيروا قواعد اللعبة في حال تمكنهم من العودة إلى سوريا هو السبب الوحيد إذن للاحتفاظ بالأسد، الأمر لا يتعلق بمصالح دولية معينة، وليس حباً بالأسد ذاته، أو غياباً للبديل، وإنما هو الاحتفاظ بالضمانة الوحيدة لعدم عودة السوريين إلى بلدهم، الاحتفاظ بالفزاعة، الإبقاء على الوحش مسلحاً ومطلق اليدين، وكل التفسيرات الأخرى لأسباب الاحتفاظ بالأسد أو السكوت عن جرائمه أو التنازل عن ملاحقته أو مطالبته بالتنحي، كل تلك الأسباب تسقط تلقائياً من غربال المنطق..
طهران في خدمة تل أبيب..
وفي الواقع فإن ضمان إبعاد السوريين الوطنيين عن المشهد يتسق بشكل واضح مع مشروع التهجير (القسري والطوعي)، والتغيير الديمغرافي الذي طرحته إيران، والذي راق للمجتمع الدولي على ما يبدو وتم اعتماده باعتباره الضمانة لأمن إسرائيل، الضمانة الأهم حتى من الأسد نفسه الذي قد يرحل في أي وقت، قد يموت في حادث سيارة، أو بأي طريقة أخرى، والضمانة الدائمة، حيث لا سوريين وطنيين في الداخل يطالبون بحرية بلدهم واستقلاله وسيادته ويشكلون قوة ما قد تعرقل مشروع التغيير ذاك أو تفشله، بينما يعول على الأسد أن يساهم في زيادة العبث بمكونات الشعب السوري وضمان ألا يعود في يوم من الأيام إلى وحدته وانسجامه السابق، ولهذا فقد اختفت مؤخراً كل الأصوات المطالبة بالرحيل، بعد أن لعبت ذات الأصوات التي لم تهدأ سابقاً دورها الأساسي في خديعة السوريين وإيهامهم بأن الأسد لا بد راحل بينما كان العالم يرتب في الخفاء لمشروع آخر لا علاقة له بما يتم التصريح عنه في العلن.
منذ العام ٢٠١٢، كانت مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة تنشر تقارير وأبحاثاً دورية تضمنت رصداً لأعداد اللاجئين، وهذا أمر عادي ومفهوم، ولكن ما لم يتم التوقف عنده حينها-وربما حتى الآن- أن المفوضية كانت تتحدث عن "التوقعات المحتملة" لأعداد اللاجئين في السنوات التالية، مما يعني ويؤكد أن المنظمة الدولية (الأمم المتحدة) كانت على يقين تام ومنذ ذلك الحين باستمرار الأسد كرئيس للبلاد وبالتالي استمرار التهجير، أي أن كل التصريحات الأميركية حول رحيل الأسد كانت نوعاً من الخديعة المتعمدة والمرسومة ضمن خطة المشروع الأساسي.
ممنوع عزل الأسد..
لقد ظل سكوت المجتمع الدولي عن بشار الأسد ونسيانه التدريجي لجرائمه، لغزاً يحير السوريين لسنوات طويلة، وكل التكهنات عن أسباب ذلك السكوت كانت تصطدم بجدار سميك من الغموض والغرابة.
لم يترك السوريون احتمالاً إلا وأشبعوه بحثاً وتفكيراً، من تمسك إيران وروسيا بالأسد كونه الضامن الوحيد لمصالحهم، إلى تمسك إسرائيل به كعميل مباشر أو غير مباشر، إلى الرغبة الأميركية بالإبقاء عليه كونه حليفاً لها في محاربة الإرهاب، ولكن كل تلك الاحتمالات ستنهار دفعة واحدة حينما ندرك أن المتمسكين بالأسد يستطيعون ببساطة إيجاد بديل له يضمن مصالحهم بذات الدرجة، وربما أكثر.
بالنسبة لروسيا، فهي أيضاً قادرة على إيجاد البديل وببساطة، فضلاً عن أن الأسد أصبح عبئاً عليها، ثم إن قرار روسيا بإزاحته -فيما لو تم- سيقربها من الشعب السوري وربما يكون الجسر الذي يمكن من خلاله تقبل السوريين للروس رغم كل الجرائم التي ارتكبوها بحقهم، أي أن من مصلحة روسيا إزاحة الأسد لا الاحتفاظ به، ولكن بات من الواضح تماماً أنه من غير المسموح للروس عزل الأسد لكي لا يؤثر ذلك على المشروع الأساسي، وهذه هي المفارقة.
أقوى من الإشاعة..
لقد استبق المجتمع الدولي ما سمي بالانتخابات الرئاسية الأخيرة في سوريا بحملة واسعة ضد الأسد الأمر الذي أيقظ الأمل لدى السوريين بنهاية محتملة للطاغية بعد سنوات من اليأس والخديعة، ولا سيما أن أساس تلك الحملة كان يركز ليس فقط على إجرام الأسد وعدم شرعيته، بل أيضاً على ضرورة إنهاء مهزلة استمراره في حكم سوريا، أو هذا على الأقل ما أرادت الحملة إيصاله للسوريين..
وبالطبع، فإن السوريين الذين كانوا يعلقون آمالهم حتى على الإشاعة وهم يعرفون أنها مجرد إشاعة، لن يروا في حراك المجتمع الدولي وتصريحاته التي تتالت وتكثفت قبل الانتخابات الأخيرة إلاّ نوعاً من القرار، مما جعلهم شبه متيقنين بجدية الموقف الجديد- القديم وبأن حقبة الأسد قد انتهت.
جرعة زائدة..
لقد كانت سخونة الحملة حينها توحي بأنها غير قابلة للتراجع، حيث هب الإعلام الأوروبي والأميركي معاً لا ليطعنا في شرعية انتخابات الأسد وحسب، بل ليوحيا للسوريين بأن الأسد لن يحلم بفترة رئاسية جديدة، إذ كيف يستطيع العالم المتمدن قبول انتصار ديكتاتور سفاح على شعب أعزل، كيف يستطيع تحمل التكلفة الأخلاقية لانتصار الجريمة ولبقاء أحد أعتى رموز البطش والإجرام على رأس السلطة في سوريا، ولا سيما أن المجتمع الدولي نفسه هو من كان قد رفض هذا البقاء وأصر على تجريد الأسد من شرعيته أكثر من السوريين ربما.
إنها بالتأكيد جرعة مخدر جديدة تتعمد بث الآمال الكاذبة عند السوريين بهدف إعادتهم إلى النوم فترة أخرى إلى أن يلحق مشروع التغيير الجيوسياسي، الجيو-إنساني، بمشروع التغيير الديموغرافي، وتنتهي قصة بلد وقصة شعب ربما إلى الأبد..