يولد الإنسان ويولد معه موته، في سباق يطول أو يقصر إلى نهاية معلومة لكنها مجهولة الزمان والمكان والشكل، وكثيراً ما يغيب عن بال الغارق في مشاغل الحياة وأفراحها وهمومها، فيأتي، أي الموت، مباغتاً ومنتصراً بامتلاكه عنصر المفاجأة، يأتي وحيداً ولمرة واحدة (من اللامكان على الدوام، من ظلمة اللاوجود من دون ماض أو مستقبل)، ومن هنا يشبهه زيجمونت باومان بالحب، وسريعاً يذهب فكأن شيئاً لم يكن، والحزن توأم الموت، حتى قيل (لا شماتة بميت) فحتى العداوة تبتلع لسانها في لحظة الغياب الجليلة، لأنه كأس على كل البشر، كقول الشاعر:
يا أيها الشامت المُبدي عداوته ما بالمنايا التي عيّرت مِن عارِ
تراك تنجو سليمًا مِن غوائلِها ؟! هيهات لا بدّ أن يسري بك الساري
وأذكر كيف كانت تُسدل ملاءة على التلفاز فلا ترفع قبل مرور أسابيع على موت أحدهم، قريباً كان أم غير قريب، أما الآن فقد أصبح قماش الحزن رقيقاً سرعان ما تأكله حشرة النسيان، وانحسرت طقوسه إلى برمجة ساعات العزاء وفي المواساة الإلكترونية، كأننا نقاوم الموت بالتجاهل، وننقي أكبر عدد من ساعاتنا من ذكره أو مروره.
لكن هذا لا يصح في جميع الظروف، فحين يخسر الموت عنصر المفاجأة ويصبح متوقعاً، يتحول إلى رفيق لحوح غير محبّذ، وهذا ما يحصل تماماً في الحرب والمعتقل والحصار، نصادق موتنا أملاً في وفائه ونصدّق القاتل توهماً لطيبته، فنُساق بالصراخ والقيود البلاستيكية والحديدية إلى غرف التعذيب، نُضرب ونُصعق بالكهرباء ونُشبح ونُركل، والأهم من ذلك أننا نتوسل، ليس لإيقاف الألم بل لعدم إيقاف الحياة، كأننا نقول لهم: "خذوا انتقامكم البطيء من أجسادنا الهزيلة، ولكن لا تدعوا الموت يقترب أكثر"، ويتحول شبح السجان/الشيطان الذي يقتادنا إلى غرفة التحقيق لملاك وهو يعيدنا إلى غرفة السجن، حيث يبدأ الألم وتعود صورة القاتل في أذهاننا إلى حقيقتها.
لقد عشنا كشعب سوري مع مرويّة المجزرة منذ ثمانينيات القرن الماضي، قصف وقتل وبقر بطون وحرق، وأسرار التعذيب والإعدام في سجن تدمر وصيدنايا والمزة وغيرها
والأمر أهون من ذلك، وإن كان أشد فتكاً، في الحرب، إذ يحضر هدير الطائرات وأزيز القذائف وشخير البراميل المتفجرة بدلاً من صوت السجان، وعشوائية سقوطها بدلاً من القيود، والاحتماء بالجدران والأقبية بدلاً من توهم رحمة القاتل، وعلى الرغم من أن النتيجة تكون ذاتها في كلتا الحالتين؛ كثير من الضحايا وقليل من الناجين، وعلى الرغم من أن إرادة القاتل هي المسبب لهما بالدرجة نفسها وبلزومية العقاب نفسها، إلا أن الموت الآتي عبر المعدن والبارود أهون من الموت المباشر بيد بشرية؛ في العلاقة مع الصواريخ والقذائف يبقى الحظ حاضراً، ويحافظ الموت، بعض الشيء، على قَدَريّته، فلا أصح من (خبط عشواء) في وصفه وهو قادم من قبة السماء الزرقاء عبر برميل متفجر، أما موت الأعزل تحت التعذيب أو بإطلاق النار أو الذبح أو الحرق فيبدو بشرياً أكثر من كونه قَدَرياًّ، وفيه من السخرية ما يكفي لتحريك رغبة الانتقام وتمنّي موت القاتل في اللحظة نفسها ويبعث على الشماتة بموته أو قتله.
لقد عشنا كشعب سوري مع مرويّة المجزرة منذ ثمانينيات القرن الماضي، قصف وقتل وبقر بطون وحرق، وأسرار التعذيب والإعدام في سجن تدمر وصيدنايا والمزة وغيرها، لكنها بقيت سردية في أذهاننا، كأجيال جديدة، أكثر من كونها حقيقة، ولعلها محاولة للدفاع عن ذاكرتنا، فكيف لي أن أتخيل أن زميلي على مقاعد الدراسة في كلية الطب البشري هو ابن السجّان الذي حرّق بالسخّان الكهربائي جسد الأستاذ سليمان ابن قريتنا في سجن تدمر؟! كان لا بد من النسيان أو التناسي، لكي نستطيع تنفس الأكسجين ذاته، لكي تفصل 10 سم من الإسمنت في السكن الجامعي بين أبناء الضحايا وأبناء القتلة كجيران لا كسجين وسجّان، لكن ذلك لم يُجد نفعاً إذ كانت جذور الجريمة تمتد كعروق سوداء إلى أيدي جناة جدد!
لم تكن المجزرة الأخيرة التي رفع عنها الستار وارتكبت في حي التضامن عام 2013 الوحيدة ولا الأكبر من بين المجازر التي اقترفها النظام في جنوبي دمشق، كحال جميع مناطق سوريا، إذ تبتدئ مجازره هناك من انطلاقة الثورة عام 2011، ومن قصفه لتشييع في بلدة حجيرة أودى بعشرات الضحايا، ومن ثم مجزرة على حاجز سبينة، وبعدها مجزرة في بيت سحم حين حاول بعض الأهالي الفرار من الجوع والحصار، فارتدى عدد من متطوعي الإسعاف في مشفى فلسطين ألبسة الهلال الأحمر الفلسطيني لانتشال عدد من الجثث ومنعوا من سحب البقية، وأذكر أن أحدهم رأى رضيعة تبكي في حضن أمها المسجّاة لكنه لم يستطع سحبها، كما استطاع الفرار من أحد سجون حي التضامن السريّة فتى لا يتجاوز الخامسة عشر من عمره، فروى لنا ونحن نعالجه من جروح في جسده عن اقتياده من حاجز الفرن الآلي على مدخل مخيم اليرموك من جهة التضامن إلى دكّان تغطي الدماء جدرانه وفيه ثلاث جثث، وساعده نحوله على الهرب من نافذة صغيرة كان قد تزعزع حديدها، وصُفي أيضاً عدد من الذين حاولوا الخروج من مخيم اليرموك عبر طريق الريجة، ومنهم ممرضون كانوا يعملون كمتطوعين في مشفى فلسطين، ومن بعدها أتت مجزرة شارع علي الوحش حيث فُقد أكثر من ألف ومئتي شخص ما بين نساء وأطفال ورجال وشيوخ، ورُوي عن تصفيات مباشرة بإطلاق النار، وحشر أشخاص في إطارات بلاستيكية وحرقهم، واغتصاب النساء، ونجا البعض القليل جداً، بينما لا خبر عن بقيتهم!
هذا الإيهام الجبان للضحايا بأنهم سيتجاوزون قنّاصاً، وعدم منحهم لحظة أخيرة قبل الموت، لقد أوقعوهم في الهاوية بالفعل، ويبدو ذلك أكثر إجراماً
بعد خروجي من مخيم اليرموك عقب سيطرة جبهة النصرة ولاحقاً داعش عليه أقمت في بلدة يلدا على مقربة من جامع أمهات المؤمنين، حيث قُتل بإطلاق النار عدد ليس بالقليل قبل سيطرة فصائل الجيش الحر عليه، وشاهدت مقاطع مصورة لجثث المدنيين التي عُثر عليها، وعشت قرابة سنتين هناك، وأنا أتخيل اقتيادهم وربط أيديهم وركنهم إلى الجدران وإطلاق النار عليهم وانتفاض أجسادهم، لكني لم أكن أتخيل سلوك القتلة بعد ذلك، الأمر الذي فضحته الفيديوهات الصريحة في المجزرة المعلنة حديثاً والتي يعود وقتها إلى عام 2013 أي في الوقت الذي نجا فيه فتى نحيل الجسم من نافذة دكان في التضامن حوّله المجرمون لمسلخ بشري، كأن يشعل القاتل سيجارة فوق حفرة الجثث، وأن يهدي قتله لكل هؤلاء المدنيين العزل إلى روح أخيه المسلح، وأن تستمر عملية القتل والحرق والطمر لزمن يتجاوز ما تحتمله أي روح بشرية حتى وإن كانت روح مجرم، ومن الناحية الأخرى هذا الإيهام الجبان للضحايا بأنهم سيتجاوزون قنّاصاً، وعدم منحهم لحظة أخيرة قبل الموت، لقد أوقعوهم في الهاوية بالفعل، ويبدو ذلك أكثر إجراماً، فما الفارق إذن بينهم وبين داعش؟! إذا ارتادوا النوادي الرياضية وشربوا الخمور وارتدوا بزّاتهم العسكرية يصبحون أناساً طبيعيين وعلى المجتمع أن يتقبّلهم على أنهم نفّذوا مهامهم ليس إلا؟! أي مرحلة من الوحشية يصل إليها العالم لتحصل المجازر فيه على امتداد خطوط الطول والعرض دون أن يحرك أحد ساكناً؟! أما نحن الضحايا الذين نجونا من المجزرة لأننا فقط لم نمرّ من ذلك الشارع فنتمثل قول محمود درويش:
خذوا أرض أمي بالسيف
لكنني لن أوقّع باسمي معاهدة الصلح بين القتيل وقاتله.