لا تزال هزات زلزال الخسارة المزدوجة التي تعرض لها حزب الشعب الجمهوري كأكبر حزب معارض بتركيا في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية معاً الشهر الماضي؛ مستمرة إلى اليوم، وبدل أن تكون مدعاة لمحاسبة داخلية لا تقبل المجاملة، فتحت الباب أمام تصفية حسابات تتوالى أحداثها دون هوادة كمسلسل تركي ساخن.
بدأت تصفية الحسابات بضرورة "التغيير" على مستوى القيادة وما تحتها في حزب دأب خسارة السباقات الانتخابية على مدى أكثر من عقدين، وكان رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو عرّاب دعوة التغيير، وبشكل غير مباشر دعا لضرورة استقالة رئيس الحزب كمال كليتشدار أوغلو من منصبه، بعد الخسارات المتتالية التي تعرض لها الشعب الجمهوري في ظل قيادته منذ 2010.
في المقابل، وعلى عكس التوقعات التي رأت ضرورة تنحي كليتشدار أوغلو بعد الخسارة الثقيلة في انتخابات أيار/مايو 2023، رجّح كليتشدار أوغلو سياسة امتصاص الهزيمة وكأنها لم تكن والتعويل على ما حققه من توحيد أصوات أحزاب المعارضة المتفرقة فيما بينها والتي لم تتمكن رغم ذلك من الإطاحة بالرئيس أردوغان وحزبه، رغم وجودهما في السلطة منذ نحو ربع قرن.
عقب الهزيمة المزدوجة، استبدل كليتشدار أوغلو أعضاء اللجنة المركزية لحزبه بأسماء جدد مقربين منه بعد استقالة أسلافهم، وأجاب عن دعوات التغيير بأنه "قبطان" سفينة، وعليه إيصالها إلى بر الأمان، دون أن يعطي إشارة ما حول وجود نية لديه للاستقالة، في ظل عدم وجود تاريخ محدد لموعد انعقاد المؤتمر الحزبي والذي سيصوّت إما لبقاء كليتشدار أوغلو رئيساً للشعب الجمهوري أو اختيار وجه آخر.
في ظل التوتر الذي يهز البيت الداخلي لحزب الشعب الجمهوري، برز انقسام ما بين داعم لرئيس الحزب الحالي وداعم لإمام أوغلو الذي صنعته انتخابات إسطنبول المحلية في 2019 وجعلت منه اسماً طُرح بقوة ليكون مرشحاً رئاسياً، وهذا ما يجعل المنافسة بين الرجلين غير عادية.
وفي ظل الانقسام الداخلي، نجد أن أسماء بارزة في الحزب مثل أوزغور أوزال وهو نائب برلماني ورئيس الكتلة البرلمانية لحزب الشعب الجمهوري، والنائب بولنت تيزجان من دعاة التغيير، حيث أعلن الأول عزمه الترشح لرئاسة الحزب، ودعا الثاني بشكل مباشر إلى ضرورة تنحي كليتشدار أوغلو عن إدارة الحزب، فضلاً عن أسماء أخرى كذلك لها أهميتها ووزنها.
وفي المقابل، نجد شخصية بارزة ومثيرة للجدل مثل جانان قفطانجي أوغلو رئيسة تشكيلة الحزب بإسطنبول، انتقدت دعوات التغيير، وحاولت "تصغير" إمام أوغلو بطريقة لبقة، حيث قالت، الأربعاء 28 يونيو/حزيران، إن كليتشدار أوغلو "لو لم يكن هو رئيس الحزب لما كانت شخصية مثل إمام أوغلو رئيساً لبلدية إسطنبول".
مشروع إمام أوغلو
رغم أن إمام أوغلو يدعو مراراً لضرورة التغيير، لكنه ما زال يحافظ على شعرة رقيقة تربطه بكليتشدار أوغلو، ويسير بخطوات متوازنة لا تخرجه عن سياق المعارضة اللبقة لرئيس حزب غير عادي مثل كليتشدار أوغلو.
ويمكن أن أقتبس هنا تشبيهاً أطلقه الصحفي التركي عبد القادر سلفي بين تنافس الرجلين، وبين منافسة بولنت أجاويد لعصمت إينونو أحد أركان ومؤسسي الجمهورية وحزب الشعب الجمهوري في سبعينيات القرن الماضي.
لكن الاستعارة يطغى عليها اختلاف كبير بين المشبه والمشبه به، فعصمت إينونو كان كهلاً يقترب من التسعين في ذلك الوقت، بينما كان أجاويد شاباً مفعماً بالذكاء والتحرك الخفي ورجل حزب لا بلديات، ولعب اللعبة على قواعدها.
أما إمام أوغلو فلم يتدرج في مناصب حزبية ولا يمتلك رجالاً مخلصين له في الداخل، لدرجة أن قفطانجي أوغلو التي كانت تلازمه ليل نهار خلال حملة الانتخابات المحلية 2019 تخلت عنه اليوم ووقفت إلى جانب كليتشدار أوغلو الذي لا يزال يحافظ على قاعدة مخلصة له في الحزب رغم خساراته المتكررة.
نعم يريد إمام أوغلو التغيير لكن الطريق وعر وشاق، ولا يبدو أن مجرد أحقية الطلب تساعده على تعبيد الطريق وصنع رجال مخلصين له لدعمه في المؤتمر الحزبي القادم.
إلى جانب ذلك، وعلى احتمال أن ينعقد المؤتمر الحزبي أواخر العام الجاري، فإن الانتخابات المحلية في 2024 ستكون حجة قوية بيد كليتشدار أوغلو من حيث ضرورة بقاء إمام أوغلو في منصبه والاستعداد للترشح لرئاسة بلدية إسطنبول مرة أخرى.
بمعنى آخر، قد يلجأ كليتشدار أوغلو لتكرار سيناريو إطاحته بخصمه السابق محرم إنجة والذي يبدو أنه غاب عن الأضواء بلا رجعة، حينما رشحه للانتخابات الرئاسية في 2018 وخسرها ليخسر معها عضويته البرلمانية ووزنه في الحزب، بعد أن صدّع رأس كليتشدار أوغلو بانتقاداته المتكررة ومنافسته على رئاسة الحزب.
في ضوء ذلك، نتساءل؛ ما الذي يمتلكه إمام أوغلو من أوراق قوية لمنافسة خصم صعب للغاية مثل كليتشدار أوغلو؟
الجواب هو أن إمام أوغلو يمتلك الإرادة لكنه يفتقد قواعد اللعبة ويفتقد الأنصار، وأمامه عائق الانتخابات المحلية وحكم قضائي بالسجن لا يزال في محكمة الاستئناف.
كيف تبدو مآلات هذا التنافس؟
من المستبعد أن يتراجع بعد الآن إمام أوغلو عمّا بدأه، بل سيواصل طريقه وسيحاول توسيع دائرته وحشد الأنصار والحلفاء من داخل الحزب، وسيكون المؤتمر الحزبي القادم مجهول التاريخ هدفه القريب.
وإذا ما عُقد المؤتمر الحزبي قبل انتخابات 2024 المحلية فإن الأمر سيكون أسهل على إمام أوغلو على الأرجح، وسينهي جدلية ضرورة تفرغ إمام أوغلو للانتخابات، أما لو قرر كليتشدار أوغلو تأجيل عقد المؤتمر الحزبي مرة أخرى إلى ما بعد انتخابات 2024، في ظل إصرار إمام أوغلو على الترشح لرئاسة الحزب وهو أمر لم يعلنه إلى اليوم؛ فإن الاصطدام الصريح سيظهر دون مجاملة.
وكلا السيناريوهين يعتمدان على فرضية أن إمام أوغلو عازم على الترشح لرئاسة الحزب، لكن قد يكون هناك سيناريو آخر، وهو "الشراكة" بين مرشح قوي لرئاسة الحزب مثل أوزغور أوزال، وبين إمام أوغلو على أمل منح الأخير وضعاً خاصاً على المدى القريب والمتوسط.
وقد يكون هذا الوضع الخاص تقديم وعود لإمام أوغلو بترشيحه للانتخابات الرئاسية في 2028، أو منحه منصباً قيادياً في الحزب، وهو سيناريو تحالف ليس مستبعداً في الوقت الحالي.
كل ذلك سيتضح في الشهور القليلة الماضية، حيث سيكون تحديد موعد للمؤتمر الحزبي إلزامياً، فأعمال المؤتمر على مستوى المناطق والولايات قد بدأ، وسيتواصل حتى منتصف تشرين الأول/أكتوبر المقبل، وحتى ذلك الحين سيكون من الواضح فيما لو سيعقد المؤتمر الحزبي العام الحالي أو سيتم تأجيله إلى 2024.
وفي ظل هذا التنافس والانشغال بتصفية الحسابات، نجد حزب العدالة والتنمية قد بدأ استعداداته منذ وقت قريب لانتخابات 2024 المحلية، وهو يضع نصب عينيه استعادة بلديتي أنقرة وإسطنبول من الشعب الجمهوري، في حين يبدو الأخير متأخراً عن تلك الاستعدادات بسبب معركته الداخلية.