ما يزال المشهد السوري يحفل بصخب عالٍ تتسيّده ردود الفعل المتوالية على لقاء موسكو الثلاثي في الثامن والعشرين من شهر كانون الأول الماضي، وبعيداً عن النتائج الفعلية المتوخاة من اللقاء المذكور فإن مجرّد إعلان الحكومة التركية جدّيتها في التقارب أو التطبيع مع نظام الأسد، وأيّاً كانت الدوافع التركية الكامنة وراء هذه الخطوة، فإن الأطراف الأخرى على الجغرافية السورية، بمختلف توجهاتها وانتماءاتها وأجنداتها تجد نفسها مدعوّة لتحديث تموضعاتها سواء الميدانية أو السياسية، ذلك أن تقاسم النفوذ الذي تشهده الجغرافية السورية، والذي بُنيَ في الأصل على مبدأ موازين القوى بين الأطراف النافذة في الشأن السوري، لا بدّ أن يخضع لبعض الانزياحات حين يبادر طرف أو أطراف إلى تغيير قواعد اللعبة، إلّا أن هذه الانزياحات، وبغض النظر عن سخونتها الإعلامية، لا تعكس بالضرورة تحوّلاً جذرياً في المواقف بقدر ما هي تكرار لما انتهجته تلك القوى – على مستوى التفكير والسلوك معاً - منذ نشأتها وتموضعها على الجغرافية السورية.
ربما كان الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة مدعوّاً قبل سواه لبيان موقفه من الانعطافة التركية، باعتباره الكيان السياسي الذي حاز على اعتراف اعتباري دولي من جهة، ولكونه أصرّ طيلة عقد مضى على أن يكون الممثل الوحيد لثورة السوريين وصاحب الولاية على مصيرهم، إلّا أنه لاذ بالصمت ولم يشأ أن يبدي أي موقف، ليس تحاشياً للتسرّع أو توخّياً لاستبيان موقف الشارع السوري الثائر، بل تحاشياً لأية ردّة فعل تركية، ولم يُتح لرئيس الائتلاف مواجهة السوريين والحديث عما يعصف بهم إلّا بعد أسبوع مضى على اللقاء الثلاثي لوزراء الدفاع – الروسي والأسدي والتركي – أي في الخامس من الشهر الجاري، بعد لقاء جمع وزير الخارجية التركي مع رؤساء الائتلاف والحكومة المؤقتة وهيئة التفاوض.
واقع الحال يؤكّد أن سلوك الكيانات الرسمية للمعارضة حيال ما حدث هو سلوك منسجم مع طبيعة الدور الوظيفي المناط بها أصلاً، ولا يغيّر من هذا الدور ما تحدث به رئيسا الائتلاف وهيئة التفاوض عن تمسّكهما بالقرارات الأممية بما في ذلك عملية الانتقال السياسي وفقاً للمرجعيات الدولية، وعدم التفريط بالحق السوري ورفض المصالحة المجانية مع الأسد، ذلك أن مثل هذا الكلام قد قيل منذ مطلع العام 2017، أي موازاة مع انطلاقة مسار أستانا، وما يزال يقال حتى الآن، ومن خلال عبارات وصياغات ثابتة لا تتغيّر، في حين أن التجليات العملية لتلك الأقوال لا تحيل إلى شيء من ذلك.
من المفيد التذكير بأن قوات الجولاني اجتاحت الريف الشمالي لحلب في شهر تشرين أول الماضي، فسيطرت على عفرين ووصلت إلى مشارف اعزاز
ولئن كان الائتلاف يُعدّ مظلةً لإحدى سلطات الأمر الواقع التي تحكم شطراً من مناطق سيطرة المعارضة (درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام)، فإن السلطة الأخرى التي تحكم الشطر الآخر، وأعني حكومة الإنقاذ في إدلب، قد شاءت أن يكون لها موقف متقدّم على المعارضة الرسمية، من خلال حديث الحاكم بأمر الله أبو محمد الجولاني الذي ربما وجد فرصة كان ينتظرها ليؤكّد للسوريين أنه يملك القوّة الأكثر جدارة بتحقيق تطلعات السوريين، إذ لم يكتف برفض المصالحة التركية مع نظام الأسد فحسب، بل بشّر السوريين بأن أقدام مجاهديه ستطأ تراب دمشق قريباً، ولا غرابة فيما قاله الجولاني، طالما أثبتت التجارب السابقة أنه هو صاحب المبادرة دوماً، إلّا أن مبادراته مهما بلغت من الجذرية وطابع الحسم، فهي قابلة للتراجع في أية لحظة، حين يوعَزُ إليه بذلك، ولعله من المفيد التذكير بأن قوات الجولاني اجتاحت الريف الشمالي لحلب في شهر تشرين أول الماضي، فسيطرت على عفرين ووصلت إلى مشارف اعزاز، ولم تجد من يردعها عن مسعاها من القوى المحلية الأخرى، إلّا أنها عادت بكل سلاسة وطواعية حين أوعزت إليها أنقرة بالعودة إلى مواقعها أو مواطن نفوذها الممنوحة لها.
ثمة موقف آخر في شمال شرق سوريا، أراد أن يكون أكثر تمايزاً وشموليةً من سواه، وقد تجسّد البيان الذي أصدره المجلس السياسي لقوات سورية الديمقراطية (مسد)، والذي لا يخفي ردّة فعل صارمة على التقارب التركي مع نظام دمشق، باعتباره تقارباً يمكن أن يؤدي إلى تحالف يهدف إلى الإجهاز على قسد بالدرجة الأولى، فضلاً عن أن التطبيع مع نظام دمشق دون عملية تحوّل سياسي سوف يتيح للنظام العودة إلى ما قبل 2011 ، وهذا تفريط بتضحيات السوريين وفقاً لبيان مسد، ولعله ليس بجديد القول: إن قسد قد سبقت أنقرة بسنوات في محاولات عديدة للتقارب أو التصالح مع نظام الأسد، وكان يمكن أن تفضي الجولات العديدة بين قسد وقوات الأسد إلى تفاهمات من نوع ما، لو أن نظام الأسد قد أبدى مرونة أو استعداداً لمنح قسد اعترافاً بإدارة ذاتية شرق الفرات، ولو تحقق شيء من ذلك في حينه أو حتى الآن، لما وجدنا في إعلام قسد أي حديث عن تضحيات السوريين أو مطالب ثورتهم، ولعل ما يلفت الانتباه أكثر من سواه في بيان مسد هو أمران: يتمثّل الأول بإدانتها لتحالف افتراضي بين تركيا ونظام دمشق باعتباره مُهدّداً لوجودها، علماً أنها تدعو في البيان نفسه إلى تحالف بينها وبين بقية أطراف المعارضة، بغية الدخول في مفاوضات مع الأسد تحت مظلة دولية. ويتمثل الثاني بإشادتها بالحراك الشعبي الثوري الرافض للمصالحة مع الأسد، وكأن قسد لم تدرك أن انقضاء أكثر من عشر سنوات على التفاوض مع حاكم دمشق لم يفضِ سوى إلى المزيد من الخيبات، إذ كيف يمكن الجمع بين موقفها الذي لا يمكن أن يكون مفارقاً في طرحه عن مشاركة النظام، وبين الموقف الشعبي الذي قدّم على الدوام وعياً متقدّما في فهم طبيعة نظام الأسد؟ ومن هنا يمكن التأكيد على أن موقف المناورة والتسلّح بالبراغماتية الفجة لم يعد مجدياً حيال القضايا المصيرية للشعوب.
اليوم تعود هذه السلطات الثلاث مجتمعة إلى الموقف الشعبي الثائر، لا للتماهي معه أو مؤازرته ودعمه سياسياً أو ميدانياً، بل لاستثماره والالتفاف عليه من جديد،
يمكن التأكيد على أن سلطات الأمر الواقع الموجودة خارج مناطق سيطرة النظام، وبأشكالها الثلاثة (الجيش الوطني وحكومة الإنقاذ وقسد) قد راهنت جميعها على موت الحراك الشعبي واندثار أي فاعلية للشارع السوري الثائر، أولاً من خلال ممارساتها بحق محكوميها من السوريين، وانتهاكاتها المستمرة لحقوق المواطنين، بل واعتبارها أن ديمومة سلطاتها ووجودها يتقوّم على ممارسة المزيد من القهر والتسلّط على المواطن، مُستقويةً بولاتها الداعمين لها والحريصين على بقائها طالما أنها مستمرة في إدارة مصالحهم، وثانياً من خلال إخلاصها وتماهيها مع أجنداتها الإيديولوجية العابرة للوطنية السورية ولو كان ذلك على حساب المصير السوري شعباً وأرضاً. واليوم تعود هذه السلطات الثلاث مجتمعة إلى الموقف الشعبي الثائر، لا للتماهي معه أو مؤازرته ودعمه سياسياً أو ميدانياً، بل لاستثماره والالتفاف عليه من جديد، ورغبةً في إخفاء سوءاتها وستر شناعتها في تدفقه الهادر سواء في مدن وبلدات الشمال السوري أو في درعا أو السويداء، في وقتٍ بدا فيه هذا الحراك المنبعث من جديد أكثر وعياً وإخلاصاً لقضيته من ممارسات وسلوك تلك السلطات، ولولا الدور الخاذل الذي مارسته النخب السياسية والثقافية، إضافة إلى دور تلك السلطات المذكورة، بحق الشارع الثوري السوري لكان ثمة حقائق أخرى على الأرض غير التي نراها.