رغم مرور عشر سنوات على رحلة اللجوء السوري وتوضّع ما يقارب أربعة ملايين سوري في تركيا ما يزال الخطاب الرسمي التركي يتناول قضية اللاجئين السوريين بطريقة تحاول فيها أن تدغدغ المشاعر الدينية أكثر مما تقارب فيها الأوضاع القانونية لهم، فتطلق عليهم صفة المهاجرين وتسبغ على نفسها سمة الأنصار الذين يفترض أنهم اقتسموا مع (ضيوفهم المهاجرين) لقمة العيش وفرص العمل! في حين تشي الوقائع المتعلقة بحياة وأوضاع اللاجئين السوريين في تركيا وخاصة في السنوات الأخيرة بما لا يتيح لأحد التبجح بمضامين تلك الشعارات، فلا السوريون مهاجرون في تركيا ولا الأتراك أنصار بالنسبة للسوريين لا بالمعنى التراثي للمصطلح ولا حتى بالمدلول القانوني المعاصر.
منتصف 2013 أصدرت السلطات التركية القانون رقم 6458 المعروف باسم قانون الأجانب والحماية الدولية ونشر في الجريدة الرسمية تحت رقم 28615 تاريخ 11 \4 \ 2013 بهدف قوننة أوضاع اللاجئين السوريين الذين أخذت وتيرة تدفقهم للأراضي التركية بالارتفاع بدءا من شهر آب – أغسطس 2012 بسبب اشتداد وطأة المواجهة المسلحة وبدء استخدام النظام للطيران الحربي باستهداف المدن والبلدات الثائرة عليه، وبدأت تركيا بإصدار بطاقات الحماية المؤقتة لطالبيها وهي كناية عن (هوية تعريفية لها رقم مرجعي) بهدف التعريف بحاملها باعتبار أن أعدادا كبيرة من اللاجئين وصلوا من دون أن يكون لديهم وثائق تعريفية رسمية سورية.
هناك بون شاسع بين مفهومي الحماية المؤقتة والحماية الدولية في الأساس القانوني وكذلك في المترتبات والأثر القانوني لكلا المفهومين
ولكي يتعرف السوريون إلى مركزهم القانوني في تركيا ويملكون إحاطة وافيه به، أجد أنه من المهم أن نعرّج على مفهوم الحماية المؤقتة ونميز بينها وبين الحماية الدولية، فهناك بون شاسع بين مفهومي الحماية المؤقتة والحماية الدولية في الأساس القانوني وكذلك في المترتبات والأثر القانوني لكلا المفهومين.
فالحماية المؤقتة هي شكل من أشكال الحماية التي تم استحداثها بهدف استيعاب تدفق كبير من اللاجئين من بلد يشهد حرباً أو نزاعاً مسلحاً، وذلك بسبب عدم قدرة الدولة المضيفة على استقبالهم بما يتناغم مع الإجراءات العادية للجوء، ولضمان عدم إعادتهم قسرياً إلى البلد التي من الممكن أن يتعرض فيها الأشخاص إلى خطر على حياته أو حريته فضلا عن وجوب تأمين الحقوق الأساسية لهم.
أو هي بمعنى آخر استجابة قانونية تلجأ إليها الدول لتنظيم وضع تعتبره استثنائيا ومؤقتا يهدف لمنح الحماية لفئة محددة من الأجانب، من دون التقيد بالأحكام المتعلقة بالأجانب والحماية الدولية الواردة في قوانينها المحلية أو المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، والتي صدّقت عليها الدولة المعنية، وتشكل جزءا من التزاماتها الحقوقية الدولية.
بينما يتأسس مفهوم الحماية الدولية على حق اللجوء والذي يعدّ أحد الحقوق الأساسية للإنسان، أي أن سنده القانوني يقوم على قواعد القانون الدولي المنصوص عنها في الاتفاقيات الدولية والمواثيق المتعلقة بحق اللجوء، سواء أكان نطاق تلك الاتفاقيات والمواثيق لها سمة دولية أو إقليمية، وبالتالي هي ترتكز أيضا على قواعد القانون الوطني الداخلي الذي يجب أن يتواءم مع مندرجات القانون الدولي والمواثيق الدولية التي ألزمت السلطات الوطنية نفسها بها لتكون جزءا من تشريعاتها الوطنية.
وبالتالي يمكننا القول إن الحماية الدولية هي منزلة بين منزلتين قانونيتين هما الحماية المؤقتة التي تتأسس على تشريع وطني صرف لا صلة له بالضرورة بالقوانين الدولية المتعلقة بحق اللجوء، وبين منزلة اللجوء الكامل الذي يتأسس على منظومة قانونية دولية فوق وطنية تمثل جزءا من القانون الدولي العام.
ومن الطبيعي في ضوء ذلك أن تختلف منظومة الحقوق التي يتحصل عليها الأشخاص من أولئك الخاضعين للحماية المؤقتة عن تلك التي يتحصل عليها أقرانهم الخاضعون للحماية (الدولية) فمن أسبغت عليه الحماية المؤقتة يتمتع بموجب القانون بالحماية من الإعادة القسرية وبتسهيلات للحصول على الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة بصورة مؤقتة خلال فترة تطبيق برنامج الحماية فقط (والذي يمكن إنهاؤه بأي وقت تعتقد فيه الدولة مانحة الحماية المؤقتة بانتهاء أسباب استمراره)، وكذلك الحق في الوصول إلى سوق العمل ضمن الشروط القانونية الناظمة لهذا الأمر.. وبالتالي لا توجد حقوق ثابتة أو مكتسبة في ما يتعلق بتعديل الإقامة أو التجنس.. في حين تمنح الحماية الدولية للمتمتعين بها طيفا واسعا من الحقوق الثابتة التي لا يجوز المساس بها أهمها مبدأ عدم الإعادة القسرية، بالإضافة إلى منظومة الحقوق الأساسية للإنسان المتعلقة بالسلامة الجسدية والتعليم والصحة والعمل والتنقل وتعديل الإقامة أو التجنس، ما يجعل المتمتع بالحماية الدولية قريبا جدا من مركز المواطن مع بعض الاستثناءات المتعلقة بتقلد المناصب والوظائف العامة والأمور السيادية كحق الترشح والانتخاب.
في ضوء ما تقدم يمكننا فهم واستنتاج أن المركز القانوني للاجئين السوريين في تركيا هو مركز هش وضعيف لا يبعث فيهم الشعور بالطمأنينة والاستقرار، فامتلاك دائرة الهجرة على سبيل المثال لا الحصر صلاحية اتخاذ قرار بترحيل الأشخاص لمجرد ارتكابهم مخالفات بسيطة من دون أن يكون للقضاء سلطة التمحيص في القرار ورفضه أو التصديق عليه قبل إنفاذه يمنح لأدوات إنفاذ القانون سلطة واسعة غالبا ما تتعسف باستخدامها كإكراه اللاجئين على التوقيع على وثيقة (عودة طوعية) مما يشكل انتهاكا لحق الحماية من الإعادة القسرية، كما لا يتيح للاجئ – إلى جانب عوامل أخرى غير العامل القانوني - فرص الاندماج مع المجتمع الملجئ.
عندما لجأ المهاجرون إلى مجتمع الأنصار في يثرب هربا من الاضطهاد حصلوا على حقوق متساوية مع مجتمع الأنصار الملجئ
وبالتالي ما لم تتم معالجة الوضع القانوني للاجئين السوريين بشكل مغاير عما هو عليه الآن ويقارب مسألة منحهم أو منح شرائح وفئات منهم على الأقل الحماية الدولية فسيبقى السوريون – وخصوصا في ظل ارتفاع وتيرة الخطاب والسلوك العنصريين - يعانون من آثار وتداعيات (حماية مؤقتة) طالت مدتها واستطالت من دون أفق وتحوّل المؤقت إلى دائم من دون أن يُفضي إلى إسباغ الحماية عليهم.
عندما لجأ المهاجرون إلى مجتمع الأنصار في يثرب هربا من الاضطهاد حصلوا على حقوق متساوية مع مجتمع الأنصار الملجئ، فسكنوا بيوتهم وتزوجوا منهم وعملوا في أسواقهم ولم يقل لهم أحد الأنصار لا نؤجر بيوتا لأهل مكة، ولم يضيّق أنصاريٌّ على مهاجرٍ سُُبلَ عيشه ومعاشه بل فتح له سوق العمل وقال رزقي ورزقك على الله، ولم يعتدِ أحد منهم على متجر يملكه مَكيٌّ، أو ينحر أنصاريٌّ لمهاجر ناقته أو فرسه لكونه ليس يثربيا...!
صحيح أن الأحكام تختلف باختلاف الأزمان والأمكنة، لكن الصحيح أيضا أنه لا يجوز التلطّي بهذا الخطاب الماضوي للامتناع عن أداء ما توجبه أحكام هذا العصر والزمان.. فإما حقوقٌ متساويةٌ تُوجبها قيم رسالة المهاجرين والأنصار.. أو حقوقٌ دوليةٌ توجبها أحكام وقيم العصر وحقوق الإنسان.. أمّا أن يكون الحال بلا هذه ولا تلك فبالتأكيد والقطع لا نحن مهاجرون ولا هم بأنصار.