"طلبنا من الله المدد فأرسل إلينا حافظ الأسد"، شعار تردد في شوارع حلب ودمشق ينقله حنا بطاطو كجملة مفتاحية في كتابه المرجعي "فلاحو سوريا" ليشرح من خلاله صعود تحالفات اجتماعية/سياسية جديدة بين حزب البعث والبرجوازية المدينية والوسط العلمائي/الديني التقليدي. كرها بصلاح جديد لا حبا بحافظ الأسد كما يستنتج بطاطو الذي ينقل عن وزير بعثي سابق حنق سكان المدن الكبرى من سيطرة الريفيين بشكل عام، والعلويين بشكل خاص ليس فقط على السياسة وبيروقراطية الدولة، بل المزاحمة على التجارة والصناعة ضمن فهم يساري راديكالي يستهدف اجتثاثهم. لقد أصبحت "القاف المفخمة" حاضرة في كل مكان في دمشق كما يقول الوزير نفسه بشكل أرعب الجميع بما فيهم المتحمسون والمناضلون ضد الصراع الطبقي والاستقطاب المديني/الريفي، والذين انتهى بهم المطاف لاحقا منفيين خارج البلاد.
بنيت العلاقة بين حافظ الأسد والبرجوازية المدينية كما يعرف الجميع على معادلة نسبية بسيطة الاقتصاد لكم والحكم لنا (البعثيين) إلى درجة جعلت مساهمة القطاع الخاص في الناتج القومي أكثر من 70٪ في اقتصاد كان يوصف جازفا من قبل كثير من الباحثين الغربيين والعرب بأنه اقتصاد اشتراكي مركزي.
وعلى هامش هذا التحالف، نشأت مقايضة ذات طابع ديني مع الوسط العلمائي والمشيخة التقليدية الدمشقية على وجه الخصوص (قوامها المجتمع لكم/ الدولة لنا) فرضتها يسارية البعثة الفجة وانتماء الرئيس الجديد للطائفة العلوية. مقايضة صمدت بقوة أمام أعتى الظروف والتحديات بما فيها الصدام المسلح بين الإسلاميين الحركيين والنظام خلال سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم.
من هنا، لا يمكن دراسة علاقة الدين والدولة في سوريا من دون الوقوف على هذا التحالف الاجتماعي الديني وهو ما نجده باختلاف الأوزان عند جميع من تصدى لدراسة سوريا.
وعليه، لا يمكن فهم نشأة، توسع، ازدهار جماعة، تيار، مدرسة دينية ما خارج العلاقة مع النظام السوري بحيث يخدم كل منهما الآخر ضمن الثنائية السابقة التي تتيح هوامش واسعة لهذه الجماعات في احتكار شرائح كبيرة من المجتمع وممارسة النشاط الفكري والدعوي مقابل تقديم وتأمين الولاء من خلال تدجين الأنصار وقتلهم سياسيا عبر إيجاد تدين طقوسي متزمت عاجز عن التكيف مع العصر بذريعة استعادة نقاء الماضي.
وينطبق ذلك بشكل كبير على القبيسيات، جماعة كفتارو، البوطي بشكل كبير، وبشكل قليل على سلفية اللاعنف لجودت سعيد خلال الثمانينيات، وسلفية دوما العلمية ومعاهد الأسد لتحفيظ القرآن خلال التسعينيات. وقد حاول حافظ وابنه بشار من بعده استنساخ مثل هذه العلاقة مع جماعة زيد لكنه لم يحقق كثيرا من النجاحات رغم العروض المغرية.
بخلاف ما يذهب إليه الإسلاميون السوريون، لم يهتم نظام الأسد الأب والابن بعلمنة المجتمع أو تطييفه بمقدار تدجينه وضمان السيطرة عليه سواء عبر قوة أجهزة الأمن أو تغلغل تيارات إسلامية موالية مثل القبيسيات أو البوطي الذي وصف المتظاهرين بالعلمانيين وأن جباههم لا تعرف الصلاة. أكثر من ذلك، كتبت الكثير من الدراسات بما فيها أطروحة دكتوراه في غاية الأهمية للباحثة Line Khatib بعنوان " Islamic Revivalism in Syria: The Rise and Fall of Ba'thist Secularism" عن نهج الأسلمة من فوق التي طبقها النظام السوري لضمان هيمنته في المجتمع، ولاسيما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وغزو العراق. أكثر من ذلك تجادل الدراسة السابقة بعد استعراض مؤشرات كمية ونوعية وتتبع دقيق لدينيامات المجتمع السوري أن العلمانية في عهد بشار الأسد هزمت شر هزيمة مقابل إسلاموية مجتمعية مهيمنة متصالحة مع النظام.
ضمن هذا الإطار، كان النظام قادرا على إدارة الصراع مع مختلف الحركات الإسلامية التي حاولت الخروج عن الثنائية السابقة حيث مكنته تحالفاته مع جذب شريحة معتبرة من المسلمين السنة في سوريا إلى جانب "تحالف الأقليات" ما وفر له قاعدة مجتمعية استخدمها في معركة الشرعية والمشروعية أمام المجتمع الدولي حتى مع استخدامه المفرط لكل أنواع القمع ووصول البلاد إلى حافة الانهيار الشامل.
بالمقابل، فشلت المعارضة العلمانية والإسلامية فشلا ذريعا في توسيع الشريحة الاجتماعية للثورة بسبب سياسات الاستقطاب المخيف وانشغالها بشعارات وبرامج طوابية مثل شكل الدولة، تحكيم الشريعة أو علمنة الدولة، الهوية السورية، مبادئ الدستور وما شابه ذلك من المشاريع السفسطائية التي تطرح بين الحين والآخر بغية ضمان البقاء والحضور لهذه الأطراف وليس لغايات تخص الشعب السوري وكفاحه ضد الاستبداد.