”تهوية سوريا“، ربما لم يقل كبار منظري بنوك التفكير والمراكز البحثية خلال السنوات العشر الماضية من عمر المأساة السورية ذلك بحرفيته، إلا أن الذين أشاروا إلى ما يشبه هذا التعبير في الساحة من اليمينيين الأوروبيين كانوا يعنون به بعثرة التكتلات السكانية ذات الطابع القومي والمذهبي الواحد والمتكدّسة طويلاً في مكان واحد، وكان هذا المكان حينئذ سوريا.
اعتبر هؤلاء أن الزمن تطاول على هذا البلد فتزايد عدد السكان العرب المسلمين السنة فيه بصورة غير متناسبة مع نموّ الأقليات العرقية والطائفية الأخرى، وأن الصبر على ذلك لن يفلح في تصحيح الأوضاع، فكان الحل استثمار الحدث السوري المتفجر لتحقيق نوع من ”التهوية“ تتفكك فيها الوحدات الكبرى وتتبعثر في أماكن عديدة، ما سيسمح بخلق التوازن المطلوب.
فابريس بلانش الأستاذ المشارك ومدير الأبحاث في جامعة ليون يرى أن الصدام بين مكونات المجتمع السوري الذي عكف على دراسته منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي أمرٌ حتميٌّ سيحدث الآن أو غداً، ويضيف بلانش أن "هناك خصوصية سوريّة تتجسد في التزايد السكاني السريع، والذي يختلف بحسب الطوائف؛ لأن العلويين والدروز والمسيحيين، لم يعودوا ينجبون أكثر من طفلين للمرأة الواحدة، في حين أنّ المعدّل مرتفع لدى العرب السنة، إلى درجة أنه خلال جيل واحد تراجعت نسبة الأقليات الدينية التي هي ركائز النظام، من 30 في المئة إلى 20 في المئة من سكان سوريا“. ووفقاً لبلانش "بالمنطق السياسي، فإنه يتعيَّن تقليص الثقل السكاني للطبقة والطائفة الخطيرة بالنسبة للنظام وهذا هو سبب دَفعِ ملايين السوريين نحو الخارج".
تجريف هائل تعرضت له بلدان المشرق العربي، بدءاً من العراق وعلى مدى سنوات طويلة سبقت حتى الغزو الأميركي عام 2003، قبل أن تلتحق به سوريا وبصورة مضخّمة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من قبل، بتهجير السكان من جهة، وباستقبالهم بترحاب من جهة أخرى، فبدا الأمر مزدوجَ الأغراض، أولاً يثبت وحشية الأنظمة والأحداث التي دفعت هؤلاء إلى المغادرة واستحالة الحياة في ظلها، وثانياً يُحدث التغيير المطلوب في المناطق التي سيصل إليها المهجّرون.
ويبدو أن النسخة الأميركية الأصلية من العولمة لم تستكمَل بعد، فكثير من المجتمعات ما يزال عصياً على تقبّل جملة القيم والمفاهيم والعلاقات التي تعبّر عنها العولمة، فالتراصّ السكاني يمنع حدوث مثل هذه التغييرات ويعرقل تسللها، في الوقت الذي تأتي فيه محمولة عبر اللغة التكنولوجية الجديدة والهواتف الذكية والخطاب الفائق الذي لم يعد بوسع أحد إغلاقه مثل جهاز راديو.
المجتمعات التي تعدّ مناسبة لتعشّش فيها قيم العولمة، لا تتوافر على شهية للتزايد بقدر ما تفعل تلك المجتمعات التي ترفض تلك القيم
السيل المتدفق يتطلب مزيدا من الإجراءات للتمهيد للسوق الحرة، والأخيرة بقواها الناعمة تعجز عن تذليل الطرق، من دون مساندة القوى الأكثر شراسة، حدث هذا في المشرق ويحدث اليوم في قلب أوروبا، والهدف تغيير القارة العجوز جذرياً هذه المرّة.
التزايد السكاني غير المسيطر عليه بالوسائل الحضارية التنموية يخلق واقعاً يتكرّر كل مرة، فالمجتمعات التي تعدّ مناسبة لتعشّش فيها قيم العولمة، لا تتوافر على شهية للتزايد بقدر ما تفعل تلك المجتمعات التي ترفض تلك القيم وما تزال تتمسك بنوع من ”الأصولية“ ذات الأبعاد المتعددة (ليس بالضرورة أن تكون أصولية دينية، اجتماعية، تراثية، تقاليد، أزياء، أمزجة إلخ).
ردود الفعل العنصرية التي برزت خلال الأيام الماضية حيال رؤية لاجئين منكوبين زرق العيون قادمين من أوكرانيا لا يشبهون أولئك السمر الذين اعتادتهم الشاشات الأوروبية، كما ردّد بعض المؤثرين والمسؤولين الأوروبيين، كانت تعبيراً عن الصدمة الأولى، لكنها سرعان ما ستزول ويحلّ محلّها شعور جديد، هو ما الذي سيفعله أولئك الأوكرانيون في أوروبا وهم القادمون من بلاد تعرّضت لغزو روسي وحشي يقودهم رئيس يهودي شاب ليبرالي التوجه؟
السؤال الآخر يتعلق بأوكرانيا ذاتها التي ستجد نفسها وهي تتعرض لهزّة عنيفة أبعد من الغزو ذاته، فما حدث خلال الأيام القليلة الماضية تغييرٌ كبيرٌ يتجاوز الدعم العسكري والسياسي والإنساني، بل يضع المسألة في قلب اهتمام العالم، بقدر ما يصنّع صورة بوتين الجديدة المعزولة، وينقله من موقع القطب الدولي إلى موقع النظام المارق في العالم، مثله مثل خامنئي وكيم جونغ أون وبشار الأسد. بل أكثر من ذلك بدأت تعلو أصوات جادة تتحدث عن معنى وجود روسيا كدولة دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، وجاء هذا على لسان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بعد أن همست به أوساط لندن عندما قال الناطق باسم رئيس الوزراء بوريس جونسون إن الحكومة البريطانية منفتحة على طرد روسيا من مجلس الأمن الدولي إثر غزوها لأوكرانيا.
عام 1987 قدمت اليونيسف تقارير تتحدث عن بلوغ معدل النمو السكاني في ليبيـا على سبيل المثال 1,4 وفي المغرب 4,2 في المئة، مقابل 3,1 في المئة بالجزائر ليصل إلى 2,4 في المئة بتونس، وهي معدلات مرتفعة جداً إذا ما قورنت ببعض الدول الغربية التي بلغت مرحلة متقدمة في تحولها الديموغرافي والذي يوصف بتعجرف من قبل الديمغرافيين بمرحلة ”النضج الديموغرافي“. لكن المشكلة تكمن في أوروبا دوماً، في ألمانيا مثلاً بلغ النمو السكاني معدلاً مرعباً حين أعلن المكتب الاتحادي للإحصاء أن عدد المواليد الجدد عام 2020 تراوح بين 755 ألفاً و775 ألفاً، في حين جاء عدد المتوفين بما لا يقل عن 980 ألف شخص. وسرّ ذلك ما أطلق عليه المكتب ذاته اسم ”عجز المواليد“ وقدرت نسبته بما لا يقل عن 205 آلاف مواطن.
لنراقب الآتي؛ الولايات المتحدة تشهد نمواً سكانياً، ليس سببه المواليد الجدد، وإنما المهاجرون الجدد، وهي حالة كانت تكاد تكون مغلقة الأبواب في أوروبا، والأمر ذاته في البلدان ”ذات التاريخ الإرهابي“ بحسب وصف مسؤول بلغاري بارز الأسبوع الماضي، وكان يقصدنا نحن مواطني بلدان العالم العربي بالطبع. تلك البلدان التي ما زال السكان فيها يعتمدون الزراعة وسيلةَ إنتاجٍ كبرى للدخل القومي، في حين لا يترافق ذلك مع برامج تنموية كافية، ولا حتى في حدّها بالأدنى، فالتنمية لا تمشي بالتوازي مع الاستبداد والتشبث بالسلطة، ولا ضرورة للتذكير بالمبدأ المفضّل لدى الأنظمة الشمولية التي تدوّن على جدران مسؤوليها ما يشبه الآية المقدّسة ”حين تتحسن أوضاع الإنسان المعيشية سيبدأ بالتفكير في العمل السياسي ويطالب بالمشاركة في السلطة واتخاذ القرار“.
يشكل الأوكرانيون 72,8 في المئة من مواطني أوكرانيا، في حين لا يشكل الروس أكثر من 22.1 في المئة من مجموع السكان، يضاف إليهم أقلية بيلاروسية نسبتها 0,9 في المئة ومولدافية تشكل 0,6 في المئة وبولندية تصل إلى 0,5 في المئة إضافة إلى البلغار ونسبتهم 0,5 في المئة علاوة على العديد من المواطنين الرومان واليونان والتتر. ويصل المعدل الوسطي للزيادة الطبيعية للسكان إلى أقل من واحد بالألف، ويعود سبب ذلك أيضاً إلى انخفاض نسبة المواليد في أوكرانيا، مع انخفاض نسبة الوفيات وارتفاع نسبة المعمرين.
المجتمع الزراعي الذي بدأ بالتآكل، وسوريا نموذج أساسي له في المشرق، وأوكرانيا نموذج ساطع له في أوروبا، يعتمد بالدرجة الأولى على تماسك الأسرة، ما يعني أن تفكيك أحد هذين العاملين سيقود إلى تفكيك الآخر بالضرورة. نعود إلى اليونسكو التي تقول إن العالم الثالث عرف نموا ديمغرافيا لا مثيل له في تاريخ الإنسانية، ونسباً لم تعرفها حتى أوروبا خلال فترة نموها الديمغرافي الكبير إبّان القرن التاسع عشر، إذ إن الزيادة الطبيعية في أوروبا الغربية خلال هذه الفترة كانت في حدود 1 في المئة سنوياً، في حين أن الزيادة الطبيعية التي عرفتها البلدان "المتخلفة" كانت من 2 إلى 3 في المئة سنويا.
مع نهاية العام الماضي توقعت وزارة الزراعة السورية أن يصل إنتاج سوريا من القمح إلى مليون و200 ألف طن، والبلاد تستهلك حالياً 2,5 مليون طن كل عام.
أما في الماضي وفي الفترة بين عامي 2008-1994 فقد كانت سوريا ”تصدّر القمح إلى دول الجوار وتؤمّن حاجة الأردن بشكل كامل وجزءا من حاجة مصر وتونس، إضافة إلى دول أوروبا وخاصة إيطاليا لإنتاج المعكرونة“. لكن الإنتاج تراجع بين 2010-2009 بسبب الجفاف ليبلغ أدنى مستوى له منذ 29 عاما. والواقع أن الجفاف لم يحدث من تلقاء ذاته وبفعل المناخ وحده الذي لم يكن قاسياً دوماً، فقد عملت القرارات الخاطئة وما يمكن تسميته بالسقاية الجائرة للمشاريع العملاقة التي أدارها كبار الضباط والمقربون من رأس النظام في سوريا إلى تجفيف البحيرات العميقة للأنهار والآبار الجوفية، إضافة إلى بناء السدود غير المبررة لتلبية حاجة الفساد للمشاريع، ما حوّل ”سلة غذاء الشرق الأوسط“ إلى بلد يعاني من دمار القطاع الزراعي تماماً، وكل هذا قبل العام 2011.
سيقود تحطيم مثل كل تلك النظم إلى تغييرات جذرية في أوضاع المرأة والتفاعلات الأساسية مع الهيئات الدينية، ومع فكرة التديّن ذاتها التي تقوم على هرمية لا توفرها قيم العولمة
أما أوكرانيا فهي، وكما هو معلوم، فمن أكبر مصدري القمح في العالم، وقد بلغ إنتاجها في الموسم 2020-2021 أكثر من 45,7 مليون طن من الحبوب. واليوم أصبح هذا الرقم في مهب الريح مع الحريق الذي يندلع على أراضيها.
بالطبع سيقود تحطيم مثل كل تلك النظم إلى تغييرات جذرية في أوضاع المرأة والتفاعلات الأساسية مع الهيئات الدينية، ومع فكرة التديّن ذاتها التي تقوم على هرمية لا توفرها قيم العولمة.
العالم يتغير بصورة مختلفة هذه المرّة إذاً، على مستوى الخرائط السياسية. في حين أن التغيير الحقيقي البعيد الأثر والمدى، هو ذاك الذي يجري على خريطة المجتمعات، فالتهوية مستمرة، ضاربة سياطها في التكتلات القومية والمذهبية، من دون غض الطرف عن كونها نوعاً من الاصطفاء الخاص والماكر لمن سيبقى ومن سيغادر، وما الذي سيخلّفه وراءه وما الذي سيتغير في المكان الجديد الذي سيصل إليه؟