رغم الراحة المعنوية التي تمتع بها مسيحيو لبنان خلال فترة الانتداب الفرنسي، إلا أن معظمهم طالبوا باستقلال تام، ولم يخفِ بعضهم الآخر رغبته بارتباط ما مع فرنسا بعد الاستقلال، ولكن مطلب السيادة كان همَّا حقيقيا، سعى كثير من المسيحيين لتحقيقه بشكل ناجز. قاد تيار المطالبة بالاستقلال في عام 1943، شخصيتان مؤثرتان كان لهما حضور شعبي وسياسي ومذهبي أيضا، هما بشارة الخوري ورياض الصلح، وتلقى الرجلان وعودا بالاستقلال من قيادة الجيش البريطاني الذي اجتاح لبنان وسوريا برفقة قوات فرنسا الحرة. عندما بدأت موازين القوى في الحرب العالمية الثانية تنقلب لصالح الحلفاء، أرادت بريطانيا استغلال ضعف الدور الفرنسي لوقوع باريس تحت الاحتلال، وبروز البريطانيين كقوة مسيطرة قادرة على التحكم بدفة الأمور، فحاولوا أن يحلوا محل فرنسا دون إزالتها نهائيا من الساحة، وذلك بكسب الشوارع الشعبية وترويج شعارات الاستقلال والوقوف وراء الشخصيات البارزة والمؤثرة، وتمسك زعماء لبنان بهذه الوعود وتحركوا سياسيا على أساسها، فتجاهل رئيس الجمهورية المنتخب حديثا بشارة الخوري ورئيس وزرائه المتناغم معه الوجود الفرنسي وتصرفوا بمعزل عن تقاليد الانتداب، وطالبوا بتغيير الدستور وإزالة كل جملة تتعلق بالانتداب من نصوصه، وكان الزعيمان قد وضعا في اعتبارها أن بريطانيا لن تخذلهم في معركتهم القادمة.
فتجاهل رئيس الجمهورية المنتخب حديثا بشارة الخوري ورئيس وزرائه المتناغم معه الوجود الفرنسي وتصرفوا بمعزل عن تقاليد الانتداب
قبضت القوات الفرنسية والأمن العام على الرئيس ورئيس وزرائه وكل من سار خلفهم من الحكومة وساقتهم بفظاظة إلى السجن، كانت حادثة مفيدة وملهمة في التاريخ اللبناني فقد وقف الشعب كله كتلة واحدة في وجه الانتداب، مطالبا بإطلاق سراح زعمائه، ووفت بريطانيا ببعض ما عليها، بتطبيق ضغط على قائد القوات الفرنسية ليخرج الساسة من السجن، وكان خروجهم عنوانا لصفحة جديدة في التاريخ اللبناني الحديث، فقد كتب للبنان الاستقلال ولم يبقَ على رحيل قوات الانتداب إلا أن تنتهي الحرب العالمية، ومراسم تسليم وتسلّم إداري.
استطاع اللبنانيون حل مشكلتهم مع الانتداب، وبقي عليهم حل مشكلتهم الداخلية، حول هوية لبنان، وكان هناك تياران مزمنان لتحديد لون هذه الهوية، فكما قلنا اعتبر جزء من اللبنانيين أن ارتباطهم بالغرب مبدأ أساسي من مبادئ الدولة اللبنانية الحديثة، وضمان أساسي لوجودها، والمطالبة بالاستقلال لا تعني فك الارتباط النهائي مع فرنسا، وكان هذا الفريق هو الجزء الأكبر من المسيحيين وعلى رأسهم الموارنة، في حين ذهب التيار الثاني لقطع الروابط مع الغرب والالتفات إلى الجانب العربي وتقوية الأواصر معه وطالب جزء من هذا التيار بالالتحاق بسوريا، ولم تكن هذه المطالبة لتلقى صدى لدى الجانب الآخر، بل شكلت مصدر قلق من العبث بالطابع المسيحي للبنان.
قبضت القوات الفرنسية والأمن العام على الرئيس ورئيس وزرائه وكل من سار خلفهم من الحكومة وساقتهم بفظاظة إلى السجن
صاغ بشارة الخوري ورياض الصلح ميثاقا شفويا يغلب عليه حماس انتزاع الاستقلال وزمالة السجن في قلعة راشيا، وطبيعة العلاقة الطيبة التي كانت بينهما، فتخلى كل طرف عما يؤمن به تحت تأثير ذلك الحماس والرغبة في ترك الحال على ما هو عليه، دون الاتفاق على الخطوة التالية، وقد اعتقد كل منهما بأن المجتمع اللبناني كيان راكد لا يؤثر فيه الزمان، أو هكذا أقنعوا أنفسهم. لم تعد لدى المجموعتين الوطنيتين الكبريين تلك الداعية للالتحاق بالغرب أو الأخرى المتمسكة بالمعسكر العربي إيديولوجيا تسيرهما، ولكن ما تم الاتفاق عليه وبشكل نهائي، هو دولة لبنانية بحسب الصياغة الفرنسية بحدودها المعروفة، وبسيطرة المسيحيين على المراكز المهمة، مع الاعتراف بوجود "طوائف أخرى" لها حقوق، ولم تقدر فرنسا ولا القائمون على الميثاق الطاقة الكامنة لدى تلك الطوائف ومدى قدرتها على النمو السريع وخاصة لدى الشيعة.