شهد السادس والعشرون من شهر حزيران الفائت موقفاً حاسماً للقضاء الفرنسي بإقراره مذكرة توقيف بحق رأس النظام في سوريا، وذلك على خلفية استخدام قوات الأسد للسلاح الكيمياوي ضد سكان الغوطة الشرقية في شهر آب عام 2013.
وقد جاء هذا القرار ثمرةً لمسار حقوقي سوري بدأ يتبلور في السنوات القليلة الماضية، يهدف إلى ملاحقة مجرمي الحرب ممن ارتكبوا جرائم إبادة بحق السوريين من خلال رفع دعاوى بحق هؤلاء أمام المحاكم القضائية في دول أوروبا.
وقد صدر قرار مماثل من القضاء الفرنسي في شهر أيار الماضي يقضي بالسجن المؤبد على ثلاثة من ضباط في جهاز المخابرات الأسدي (علي مملوك، جميل الحسن، وعبد السلام محمود)، وذلك على خلفية اعتقال النظام السوري مواطنين فرنسيين (مازن دباغ وابنه باتريك) في الرابع من تشرين الثاني عام 2013، واللذين قُتلا تحت التعذيب في السجون السورية.
لعل قيام عدد من الناشطين السوريين بالتأسيس لمسار نضالي حقوقي لمواجهة نظام الإبادة يأتي تجسيداً لأهم الآليات الدفاعية، بل الأكثر استجابةً لمعاناة السوريين من جهة، وكذلك هي الأكثر تماهياً مع توجهات ومطالب الثورة السورية ذات المنشأ الحقوقي في الأصل من جهة أخرى. إذ إن انتفاضة السوريين ومطالبتهم بالحريات بشتى أشكالها هي تعبير بالأصل عن حقوق جوهرية قرينة تكوينهم الإنساني وقد اغتصبتها السلطة منذ عقود، وليست مجرد مطالب ذات صلة بالشأن السياسي العام فحسب. فضلاً عن أن المواجهة الدامية بين نظام الأسد والسوريين على مدى أكثر من عقد قد عززت اليقين بأنها مواجهة تتخطى تخوم السياسة. إذ إن استهداف المواطنين بوسائل دمار ذات طابع إبادي جماعي كالطيران والسلاح الكيمياوي، أو القتل الجماعي في السجون، إنما يؤكد المنحى الوجودي لتلك المواجهة.
تشهد الساحة العربية والإقليمية مساراً، بل مساراتٍ معاكسة، من خلال اندفاعات محمومة تسعى إلى مدّ جسور التطبيع وإعادة علاقاتها كما كانت سابقاً مع حاكم دمشق بعد قطيعة امتدت لسنوات.
يمكن القول إن موقف القضاء الفرنسي يأتي في هذا السياق متناغماً، بل مُعززاً وداعماً للموقف الأوروبي العام الرافض جميعَ محاولات التطبيع مع نظام الأسد، وذلك على الرغم من المحاولات التي دفعت بها روسيا لاختراق عزلة نظام دمشق وإعادة تعويمه وإنعاشه اقتصادياً وسياسياً. إذ ما تزال معظم الحكومات الأوروبية ترهن أي تغيير في موقفها السياسي الرسمي حيال الأسد باستجابته وتفاعله الإيجابي مع العملية السياسية ذات المرجعية الأممية، وهو ما يحاول نظام دمشق رفضه تارةً، ومحاولة الالتفاف عليه من خلال المماطلة والتسويف تارة أخرى.
ولكن في موازاة الموقف الأوروبي – سياسياً وحقوقياً – تشهد الساحة العربية والإقليمية مساراً، بل مساراتٍ معاكسة، من خلال اندفاعات محمومة تسعى إلى مدّ جسور التطبيع وإعادة علاقاتها كما كانت سابقاً مع حاكم دمشق بعد قطيعة امتدت لسنوات، علماً أن الأسباب التي دعت تلك الأطراف العربية وغير العربية إلى مقاطعة الأسد ما تزال قائمة.
ولئن أثار حضور بشار الأسد قمةَ جدة في أيار من العام 2023 العديد من التساؤلات التي ذهبت إلى حدّ الظنّ بأن عودة الأسد إلى الجامعة العربية ستكون مقرونةً بتغيّرات جوهرية في مواقفه، سواءٌ حيال شعبه، أو حيال أقرانه العرب، إلا أن هذا الظن سرعان ما اصطدم بالوقائع المتكررة التي تثبت أن (ماهيّة الشيء لا تفارقه) كما يقول المثل. إذ لا مشروع (خطوة مقابل خطوة) الذي أطلقه الأردن وباركه بوتين، استطاع استمالة الأسد واستدراجه نحو تفاعل إيجابي مع أقرانه العرب، ولا إعادة افتتاح السفارات في دمشق والعلاقات الرسمية قد جعلته يوقف – على الأقل – تدفق الكبتاغون نحو الأردن ومن ثم دول الخليج، فضلاً عن موقف استعلائي جسّد على الدوام الوجه الأكثر وقاحة واستفزازاً للمنطق الأسدي. ولكن على الرغم من ذلك فقد عاد الأسد وحضر قمة المنامة في أيار الماضي، تلا ذلك خطوة سعودية تمثلت بإعادة فتح سفارتها رسمياً في دمشق، ومن ثم إعادة الحكومة السعودية ملف الحج إلى حكومة النظام.
لا شك أن مواقف الدول من نظام الأسد في منظار السوريين ستبدو شديدة الاضطراب والتعقيد، ولعل جزءاً من هذا التعقيد يكمن في ماهية القيم والمعايير الناظمة لمواقف تلك الدول، وليس في سلوكها المادي فحسب. إذ يمكن لأي مواطن سوري معرفة أن معظم دول أوروبا قد انحازت إلى موقف السوريين المنتفضين بوجه الأسد إبان انطلاقة الثورة، كما دانَ الأوروبيون جنوح قوات الأسد نحو مزيدٍ من القمع، كما دانُوا – لاحقاً – مجمل الجرائم التي ارتكبتها قوات الأسد بحق السوريين، كما أسهم الأوروبيون – كسواهم من دول العالم – بتقديم الدعم الإنساني والإغاثي للسوريين، ولكن لم تُقدم أي دولة أوروبية على إنشاء فصيل عسكري أو تبنّي جهة عسكرية داخل سوريا، بل نظرت إلى مسألة محاربة نظام الأسد وإسقاطه عسكرياً، على أنها مسألة سورية ولا ينبغي أن تعني دولاً أخرى. وعلى الرغم من موقف كثيرٍ من السوريين آنذاك، والذي كان يتطلع إلى دعم أوروبي يتجاوز الجانب الإنساني والإغاثي، ويكون أكثر حسماً في نُصرة السوريين في مواجهة نظام الأسد، فإنَّ هذا التطلّع لم يغيّر من الموقف الأوروبي الذي ما يزال – إلى حدّ بعيد – متناغماً مع خطابه الأولي حيال القضية السورية.
لئن أظهر هذا المسعى العربي ممالأة مجانية للأسد تكشف مجاهرة بعض الأنظمة العربية بإهانة السوريين والاستهتار بدمائهم وتضحياتهم وعدم الاكتراث بمصيرهم، فإنها تكشف من جهة أخرى عن عدم اكتراث هؤلاء أيضاً بقيمهم، بل بإهانتهم لمبادئهم وتاريخ بلدانهم وسمعة شعوبهم.
في الطرف المقابل، لا يجهل أي مواطن سوري اندفاع العديد من الدول العربية منذ منتصف العام 2012 نحو الزجّ بثقلها العسكري داخل الجغرافيا السورية، ومبادرتها إلى إنشاء كيانات عسكرية ذات توجهات إيديولوجية متطرفة كانت لها تداعيات كارثية على سيرورة الثورة السورية، وعلى كل المستويات، وقد سوّغت صنيعها آنذاك بردع قوات الأسد عن قتل السوريين وكذلك بدعمهم للتخلص من نظام الاستبداد والتوحش. ولكن بعد أن تسبب الأسد في مقتل أكثر من مليوني سوري، واعتقل عشرات الآلاف، وهجّر ثلثي السوريين إلى بلدان الشتات ومخيمات النزوح، تعود هذه الدول ذاتها إلى مكافأة الأسد على صنيعه بالسوريين من خلال سعيها الحثيث والمتواتر إلى إعادة علاقاتها مع حاكم دمشق وإعادة تعويمه من جديد، وذلك من دون أن تظهر أية دالّة توحي بأن نظام الأسد قد فارق ولو جزءاً بسيطاً من ماهيته الإجرامية.
منذ أواخر العام 2019 بدأ مسار التطبيع العربي مع الأسد، وحتى الآن لم يجنِ المُطبّعون سوى الخيبات والخذلان المستمر من نظام بات مصيره بيد داعميه الروسي والإيراني، ولم يعد يقوى على كفاية مواطنيه بأدنى مقومات المعيشة، فضلاً عن تحوله إلى مصدر لشتى أشكال الشرور التي بات يصدرّها ويبتزّ بها دول الجوار. إذاً فما الذي تريده تلك الدول من حاكم دمشق وما عساه أن يقدم لها غير الذي لديه؟ هل ستكون دمشق نقطة عبور فقط نحو إيران؟ وهل باتت مسألة تعويمه وإعادة تصديره عربياً شرطاً إيرانياً لأي تفاهمات مع دول عربية أخرى؟ وإن كان الأمر كذلك، فهل سيكون الاستمراء العربي للجيفة الأسدية رادعاً لشرور السياسات الإيرانية في المنطقة؟
ولئن أظهر هذا المسعى العربي ممالأة مجانية للأسد تكشف مجاهرة بعض الأنظمة العربية بإهانة السوريين والاستهتار بدمائهم وتضحياتهم وعدم الاكتراث بمصيرهم، فإنها تكشف من جهة أخرى عن عدم اكتراث هؤلاء أيضاً بقيمهم، بل بإهانتهم لمبادئهم وتاريخ بلدانهم وسمعة شعوبهم. ولن نتحدث في هذا السياق عن دواعي العروبة والدين وروابط الأخوة والمصير لأنها قد غابت جميعها عن سلوك الأنظمة العربية منذ عهود. ولكن يمكن التأكيد أن الموقف الخاذل وغير المتوازن لدول التطبيع مع الأسد لا يجسد استجابة تلك الأنظمة لمصالحها أو يجسد عدم قدرتها على اتخاذ موقف سياسي متوازن حيال القضية العادلة للسوريين فحسب، بقدر ما يجسد سفوراً أخلاقياً وانفصاماً صريحاً عن الوازع الإنساني لدى الكائن البشري على العموم.