أعادتْ موجةُ اللجوء العربية الأخيرة تنشيط أسئلةٍ ومسارات ومعطيات وإحصاءات، باتت تشكل اليوم جزءاً من الحياة المعرفية والبحثية الغربية في الجامعات ومراكز البحث. وتتنوّع قضايا اللجوء وإشكاليّاته؛ تبعاً لحالة كل طالب لجوء؛ وكذلك وفقاً لحالة كل بلد من بلدان المقصد، والخطوات التالية لمرحلة اللجوء، سواء أكان بالحصول على جنسية تلك البلدان بعد فترة زمنية محددة، كما هو الحال في الدول الغربية، أم من خلال بقاء الراغبين باللجوء بصفة نازحين، أو تحت إطار الحماية المؤقتة، في حين تبقى شريحة منهم تنتظر إعادة التوطين في الدول الغربية عبر الأمم المتحدة، خاصة ممن يقيمون في الدول المجاورة (تركيا ولبنان والأردن).
وتتولَّد عن اللجوء ظواهر ثقافية واجتماعية متجدّدة، تبعاً لاختلاف أنماط المعيشة في كل دولة، وموقف نظام الحكم من اللاجئين ومفاهيمه للتعددية الثقافية، وأثر "عصبة الدولة" ومرتكزاتها وكثافة أعدادهم فيها. ومدى تداخل حياة اللاجئين مع الحياة اليومية لشعب كل دولة، وأثر ذلك في حياتهم الاقتصادية، وأزماتهم وفرص عملهم، وطول فترة اللجوء.
أما من وجهة اندماجهم ومشاركتهم في المجتمع الجديد؛ فمنهم من هو فاعلٌ اقتصادياً واجتماعياً، ومنهم شريحة غير فاعلة، ممن يعيشون على المساعدة الاجتماعية واختاروا العيش في "غيتو" عربي أو مسلم، محافظة على عوالم الوطن الأم كما يعتقدون أو احتجاجاً على إهمالهم. وكذلك هناك من حصل على فرصة عمل ملائمة لاختصاصه وطموحه، وهناك من أعاد دراسة فرع جديد مختلف كلياً عن سيرته الوظيفية السابقة، أو خضع لتدريب في مجال عمله الأساسي، أو مجال آخر، وتؤثر في تلك المعطيات متغيراتُ: العمر والشهادة ونوع العمل، والإرادة، ومفاهيم الاندماج، وبلد اللجوء.
وعلى مستوى مشاركة لاجئي الجيل الأول والجيل الثاني السياسية؛ فقد بتنا نرى وزراء (بريطانيا وكندا وألمانيا مثلاً) وأعضاء برلمان (هولندا وألمانيا وأميركا مثلاً) ورؤساء بلديات (ألمانيا والسويد وهولندا مثلاً) من أبناء اللاجئين العرب، خاصة من أبناء موجة لجوء التسعينيات من القرن الماضي (معظمهم من العراقيين)، وتشير أبحاث تناولت هذا الموضوع إلى أن اهتمام أبناء اللاجئين بالمشاركة السياسية في بلدانهم الأوروبية لافت ومؤثر.
هناك عودتان: عودة مؤقتة بهدف زيارة قصيرة للبلد الأم. وعودة دائمة للاستقرار تشجعها منظمات أوروبية وتدعم برامجُها الراغبين بذلك بمكافأة مالية (تقدم هولندا 2000 يورو لكل عائد)
أما موقف اللاجئين من العودة إلى الوطن الأم فيختلف تبعاً لحالة كلٍّ منهم، إذ هناك عودة قسرية؛ مثل حالة من يعيش من السوريين في (لبنان)، أو عدد ممن يعيشون من السوريين والمصريين في (تركيا)، أو ممّن انتهتْ إقاماتهم أو أنهيت عقودهم في حالة كانت أقرب إلى اللجوء الصامت (السوريون في بعض دول الخليج مثلاً). وهناك عائدون طوعاً إلى بلدانهم ممن تجنَّسوا؛ بدافع الرغبة بالبحث عن فرص عمل جديدة، أو استثمارية، أو بدافع الحنين وزيارة الأهل. أو العودة قسراً ممن رُفِضَ طلبُ لجوئهم، أو تعرضوا للترحيل نتيجة حجج متعددة. وهناك عودتان: عودة مؤقتة بهدف زيارة قصيرة للبلد الأم. وعودة دائمة للاستقرار تشجعها منظمات أوروبية وتدعم برامجُها الراغبين بذلك بمكافأة مالية (تقدم هولندا 2000 يورو لكل عائد). وثمة نوع آخر من العودة، يمكن تسميتها بـ "العودة اليائسة" نتيجة طول إجراءات اللجوء، أو حدوث متغيرات في حياة طالب اللجوء الاجتماعية أو العائلية أو النفسية.
وبذلك يتقاطع اللجوء من وجهة بحثية، مع عدد من المجالات المعرفية والاجتماعية والقانونية والثقافية أبرزها:
- الاندماج وحدوده وسياساته والاستجابة له وجدواه.
- الدور المأمول للاجئين في مجتمعاتهم الجديدة.
- تشظيات الهوية لدى الجيل الأول والثاني وما يليهما، خاصة لدى جيل الأطفال والشباب.
- عودة المجنَّسين إلى الوطن الأم مستقبلاً وتوقيتها، والعودة القسرية والطوعية، وإمكانية مشاركتهم في مراحل إعادة الإعمار.
وتشير أرقام الاتحاد الأوروبي إلى أن أعداد اللاجئين قد تزايدت في السنوات الخمس عشرة الأخيرة لأسباب إنسانية وسياسية ومناخية، خاصة من: سوريا واليمن وليبيا والعراق والصومال. إضافة إلى عدد كبير من الفلسطينيين الذين يعيشون في تلك البلدان، وهم ليسوا من ضمن تلك الإحصاءات؛ لأن عدداً من الدول الغربية تصنفهم ضمن شريحة (عديمي الجنسية) وهذا التصنيف فيه بعدان: قانوني إجرائي يسهِّل حصولهم السريع على الجنسية الأوروبية (في هولندا بعد مرور 3 سنوات من حصولهم على الإقامة يُمنحون الجنسية). وسياسي حيث تخفِّف تلك الدول من الضغوطات الديموغرافية والقانونية على إسرائيل فيما يخص حق العودة (أعداد اللاجئين عام 2022 في الاتحاد الأوروبي). وقد بلغ عدد من اضطروا إلى الهجرة القسرية عام 2021 وفقاً لإحصاءات الأمم المتحدة .389 مليون شخص. منهم 27.1 مليونا صاروا لاجئين. وشكل طالبو اللجوء جزءاً رئيسياً من الرقم الكلي بنحو 4.6 ملايين طلب. وفي الاتحاد الأوروبي وحده 537.630 لاجئا عام 2021 منهم نحو 100 ألف من سوريا، وهي أرقام تزيد 30% عن أرقام عام 2020، الذي يعد عدد طالبي اللجوء فيه أقل من المعتاد نتيجة موجة مرض "كورونا" وتبعاته.
وبمقارنة أرقام اللاجئين العرب عام 2021 مع أرقام اللاجئين قبل موجة الاحتجاجات العربية وارتداداتها، نجد أن أعدادهم زادت ثلاثة أضعاف ما كانت عليه. ويبدو أنَّها ستتزايد في السنوات القادمة، نظراً لعدم وجود حلول سياسية أو استجابة إجرائية لمطالب المحتجين. إضافة إلى بروز مشكلات اقتصادية جديدة وتغيّرات مناخية لافتة في الدول التي اضُطرّ سكانها للجوء، الذي تعززه الصراعات السياسية، وانتهاكات حقوق الإنسان، والفقر، وتزايد البطالة في دولهم المتقاعسة عن أداء دورها الوظيفي. على أمل أن يحصل أولئك الراغبون باللجوء على الأمان المعيشي والنفسي والوجودي في دول اللجوء، حيث الرعاية الاجتماعية في أحد أعلى مستوياتها عالمياً.
تُحرِّكُ سياسات الدول الغربية تجاه اللاجئين والاندماج رؤى سياسية وقانونية ذات جذور فلسفية، تأخذ بعين الاهتمام الحقوق الكاملة لهم، بشرط الاندماج في المجتمع الجديد. وتشير في مواضع عدة إلى أهمية الحقوق الثقافية الأصلية، بالتوازي مع الحقوق السياسية والقانونية المكتسبة، في ضوء قوانين بلدان اللجوء، وما أقرته الأمم المتحدة من حقوق للاجئين بصفتها جزءاً من حقوق الإنسان. وتمّت صياغة تلك الرؤى والقوانين اعتماداً على جهود فلسفية متراكمة في هذا المجال لكل من: تشارلز تايلر وويل كيملكا وإدغار موران واريند ليبارت.
وقد تداخلت تلك الرؤى مع تحوّلات مفاهيمية للدولة في أوروبا تتعلق بتعدّد الأعراق والثقافات وأهمية الاختلافات، وأثرها في إثراء المجتمعات، وبالتالي تغيّر مفاهيم الجنسية وانحسار مفاهيم النقاء العرقي، ومفهوم الدولة النقية القومية وصولاً إلى دولة المواطنة التعددية.
وغدا موضوع اللجوء وتبعاته في السنوات الأخيرة مادة سهلة للتسويق والاستثمار من قبل اليمين الأوروبي، إذ يزدهر الاستثمار فيه في مواسم الانتخابات، في عدد من الدول الأوروبية وسواها، ومؤخراً تابعنا أحد أبرز وجوهه إبان الانتخابات النيابية والرئاسية في تركيا.
مما يعطي أهمية لقراءة تحولات اللجوء وقضاياه أن جزءاً كبيراً من تلك الكتلة البشرية يعيش في مراكز القرار، ويدرس في الأكاديميات الغربية، خاصة فئة الشباب
وبعيداً عن الجانب الإنساني في اللجوء وهو عامل مهم، إلا أن حاجات عدد من الدول الأوروبية الاقتصادية والديموغرافية لها حضورها في هذا الملف، وتفسّر عدداً من تفاصيله، متمثلة بسد نقص العمالة (في هولندا مثلاً 437 ألف فرصة عمل شاغرة )، وتعويض تناقص أعداد السكان )تشير الإحصاءات إلى أن عدد سكان ألمانيا سيكون أقل بـ 5 ملايين من عدد السكان الحالي عام 2050).
ومما يعطي أهمية لقراءة تحولات اللجوء وقضاياه أن جزءاً كبيراً من تلك الكتلة البشرية يعيش في مراكز القرار، ويدرس في الأكاديميات الغربية، خاصة فئة الشباب (عدد الطلاب السوريين والفلسطينيين في الجامعات والمعاهد الهولندية بلغ أكثر من 5000 طالب عام 2021). الذين يمكن أن يقوموا بدور مهم في الحاضر والمستقبل؛ سواء في مجتمعاتهم الجديدة أو في مجتمعاتهم الأم في مراحل إعادة الإعمار. وبالتالي فإن مقاربة ظواهر اللجوء الاجتماعية والفكرية والهوياتية والاقتصادية ودراستها، والتشبيك معها، واقتراح الحلول لها، له أهمية كبيرة.
ينقسم لاجئو السنوات الأخيرة من البلدان العربية في البلدان الغربية، قانوناً، اليوم؛ إلى: طالبي لجوء ينتظرون البتّ بطلباتهم (نحو 500 ألف والرقم يتزايد يومياً)، ولاجئين بإقامة مؤهلة للجنسية، يعملون على استكمال شروط الحصول على الجنسية (أكثر من مليون)، ولاجئين سابقين حصلوا على الجنسية الأوروبية وصاروا مواطنين (نحو مليون).
السؤال: ماذا فعلت السياسات العربية تجاه هذه الكتلة البشرية وهل من تفكير بتوظيفها لخدمة أوطانهم الأم والتشبيك معهم؟ أم أنها اكتفت بالتخلص منهم و"تسفيرهم" فحسب؟