اللافت في العقد الأول من القرن الحالي، الجرأة التي تحلى بها الإعلام السوري في عرض مسلسلات درامية لم توفر انتقاد الأجهزة الأمنية والمسؤولين. شكل الهجاء والسخرية قفزة لحساب الحرية في بلد أقل ما يوصف به، أنه بلد دكتاتوري. فكانت التوقعات أن انفراجًا قادمًا لن يتأخر، مع تنصيب الوريث رئيسًا للجمهورية، سيعقبه بعد زمن لن يطول، محاولة إرساء نظام تشارك فيه المعارضة بنصيب مهما كان ضئيلا، لا يستهان به. فالدكتاتورية بلغت من التحجر حدودا لا رجوع عنها، فهل تراخت؟
بدا وكأن النظام استغل نسبة المشاهدة العالية للمسلسلات الدرامية، وكانت تصادف عادة شهر رمضان، لإبلاغ الشعب بالانفتاح الحاصل، ولو كان من دون انفتاح. كانت فرصة نادرة، سارع الفنانون إلى اقتناصها، هم أيضًا كانوا مهمومين بابراز مواكبتهم لهذه الخطوة بالانفتاح على موضوعات تحسب لهم، وتعود عليهم بالشهرة لمجرد إسهامهم بما بدا مخاطرة لا تتعدى عواقبها أكثر من تقليم الحلقات الجريئة من المسلسلات، لدى محاولتهم ملامسة الجحيم على جرعات.
كانت نسمة من الحرية، شارك فيها مخرجون وكتاب سيناريو وممثلون وممثلات، انغمسوا فيها على أنها واجب وطني، لم يدر معظمهم أنهم داخل تمثيلية يعملون فيها لحساب النظام، وما ضجيج اصطدامهم مع الرقابة من وقت لآخر إلا من عناصر هذا السيناريو المصطنع، لا تشذ عنه، لئلا يشتطوا فيظنوا أنهم يساهمون بالتحريض على التغيير ببضع مسلسلات طريفة، بينما حسب النظام، رفهت عن المشاهدين، وأدت الغرض منها، بما يشير إلى تغيير حدث في زمن الوارث عن زمن المُورث.
هذا التبسيط يوحي بمؤامرة سخيفة، لكنها حقيقة، توضحت بعد اندلاع الثورة، إذ يستحيل إصلاح دولة متكلسة إلا بثورة حقيقية. ها قد جاءت، فاعتقد الممثلون أنهم سيعاودون تمثيل أدوارهم الرمضانية مع وقائع على الأرض، في انتقاد مسؤولين وأجهزة أمن وقمع على وشك الرحيل، وستتعدى جرأتهم عدم غض النظر عن كل من شارك في هذه الجرائم من كبار المسؤولين الفاسدين إلى أصغر جلاد في أقبية المخابرات، كان هذا في الأيام الأولى. طبعًا هذا لم يحصل.
ما حصل، هو أن المسلسلات القديمة كانت ملتبسة أصلاً، وإن عسر في ذلك الوقت معرفة أسبابها الحقيقية. على الهامش، كان ضمان استمرار مسيرة الدراما، يتطلب متفرجين، لرفع أرقام المشاهدة، وهذه الموضوعات بالذات تجذبهم إليها، إنها آلامهم وعذاباتهم، لكن كان للنظام هدف آخر، المشاهدة ليست بلا مقابل، إنه الاعتياد، بحيث يصبح مألوفًا.
تعِدُ الدراما بجانب تنفيسي، حسب الاعتقاد الساري، فمشاهد العنف تنفس عن الاحتقان في النفوس، وعلى مثالها التعذيب في الأقبية، وإهانة الناس وتمريغ كرامتهم في الوحل، ما ينفس عن المواطنين ما ابتلوا به، ويخفف عنهم عدم الإحساس بالأمان، وأنهم مهددون على الدوام. لسنا في فيلم أميركي، نحن إزاء ما يحدث في الواقع، مهما كان التمثيل رديئًا، مع إغفال خشونة التحقيق، وكثير من أساليب التعذيب، فاقترابه من هذه الوقائع، لا يخلو من الاجتراء على الخطوط الحمراء.
لم يكن الهدف التنفيس عن أي احتقان فقط، بل رفع سويته وتفاقمه أيضًا، إذ لن يؤدي إلى انفجار، طالما العمل ينحو إلى تحويل السجون وأقبية التعذيب إلى مؤسسة إصلاحية، تعمل على المدى الطويل، باحتجاز المواطنين لعشرات السنين. أما التأديب فلا يقل عن إحداث عاهة. والتذكير أنهم إزاء سلطة جبارة، لا خلاص منها، ولا بديل عنها، مستمرة، وربما أبدية،. تكرس صورة الجلاوزة الجلادين يرفضون حتى توسط الله لتخفيف العذاب... هكذا الفن، يعمل على اعتياد تصور للسلطة، على أنها قدر لا فكاك أو مهرب منه.
أما النصيحة التي تنطوي عليها، فتحذير المواطن: إياك أن تكون من ضحايا أجهزة المخابرات. يجب أن تتحاشاهم سواء كنت بريئًا أو مذنبًا، لا خيار لك. أما السلطة فلن تتحاشاك بل تتقصدك، هذا كله من خلال مشهديات عيانية، ستبدو على الشاشة مخيفة، المقصود منها، أن تستساغ إلى حد القبول بالموت، للنجاة من التعذيب.
أما قصة تصوير الجلاد على أنه غبي وحقير ، فهو مطلوب هكذا، لأنه هكذا، لا رحمة ولا شفقة، أي أنه ليس إنسانًا، في السجون متسع لهذا النوع من السفلة المثيرين للسخرية في التمثيليات، والرعب طبعاً، مهما بلغ بهم الغباء، فتنفيذ الأوامر بقسوة وبمنتهى الحقارة، لا يتطلب الذكاء. بهذا يتعرف المواطن الصبور إلى ما قد يحيق به، لو وقع بين براثن سلطة ظالمة ومجرمة وقذرة، لا تتورع عن شيء: أي قد أعذر من أنذر.
هذا ما جرى إدراكه خلال الثورة؛ فالشعب حاول، ماذا كانت النتيجة؟ ملايين من الشهداء والنازحين والمعاقين واللاجئين.... وهؤلاء بالذات الجلاوزة الذين تجري السخرية منهم، هم الذين قضوا على الثورة وحولوها إلى إرهاب، مع أنهم ليسوا بهذه الحذاقة، لم ينقذ النظام إلا حقارتهم ودمويتهم.
وهكذا أدى الفن رسالته؛ نَصَحَ وحذّر ، ولو كان تحت ستار الانتقاد، بذلك أدى خدمة لنظام استبدادي، لا يحفل بالأخلاق، يستخدم الفن سلاحًا، ويسوق الخضوع والخنوع على أنهما الأمان والسلامة، بالتحايل على الحقائق، وتحويلها إلى أكاذيب لا نجاة منها.