يُعدُّ الدستور عقداً اجتماعياً بالتراضي (وليس قهراً أو بالتغلب عبر انقلاب عسكري) بين الدولة بمؤسساتها وكبار موظفيها (رئيس، رئيس وزراء، وزراء...) والمجتمع بأفراده الذين يلتزمون بقوانينه ويدفعون الضرائب التزاماً بهذا العقد، ومن المنطقي أن أي إخلال من أحد الطرفين سيؤدي إلى زعزعة الثقة بين الحاكم والمحكوم تصل إلى حد إعادة النظر بالعقد أو نقضه في حالات متأزمة، وهنالك في العالم قرابة مئتي دستور بحيث لا تخلو دولة من حكم قانون يؤسس لعلاقة الحاكم بالمحكوم، ويُعلي من شأن القيم الأخلاقية والإنسانية ويرسم ملامح سياساته الاقتصادية والسياسية والقضائية في المجتمع.
نحت مصطلح "الاقتصاد الدستوري" في عام 1982 الاقتصادي الأميركي ريتشارد ماكنزي، ومن ثم طوّره اقتصادي أميركي آخر هو جيمس م. بوكانان (1919-2013) أستاذ الاقتصاد في عدة جامعات أميركية، والحاصل على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية عن كتابه "تطوير الأسس التعاقدية والدستورية لنظرية اتخاذ القرارات الاقتصادية والسياسية" في عام 1986.
ساهم الاقتصاد الدستوري في رأب الصدع بين علماء الدستور والاقتصاديين، حيث سمح نهج الاقتصاد الدستوري بإجراء تحليل اقتصادي ودستوري مشترك، بمعنى مقاربة الدستور ببعديه الاقتصادي والقانوني، ليتمتع بالمرونة الكافية حتى يصلح للأجيال القادمة ويحقق التوازن بين مصالح الدولة ومصلحة المجتمع خاصة الاقتصادية منها، وقد دعا بيوكانان إلى أن لا يكتفي الاقتصاديون بتقديم المشورة للسياسيين بل عليهم أخذ الهيكلية السياسية بعين الاعتبار وهم يصيغون دراساتهم ونظرياتهم، بل ذهب لأبعد من هذا من خلال تشجيع الاقتصاديين ليساهموا في تطوير "نظرية الدولة".
معظم دراسات "الاقتصاد الدستوري" منشئوها نظرية "الاختيار العام" ببلك جويس، وهي فرع للاقتصاد الذي تم تطويره من خلال دراسة الضرائب والإنفاق العام، وظهرت في الخمسينيات من القرن الماضي، وحظيت باهتمام شعبي واسع النطاق في عام 1986، عندما مُنح جيمس بوكانان، أحد المهندسين الرئيسيين له (مع زميله جوردون تولوك)، جائزة نوبل في الاقتصاد.
بدأ بوكانان مركز دراسة "الاختيار العام" بجامعة جورج ماسون في واشنطن، ولا يزال الموقع الأكثر شهرة لأبحاث "الاختيار العام"، حيث يوفر هذا المركز دراسة موقعاً واحداً للباحثين المهتمين بإجراء الأبحاث المبتكرة ومكاناً واحداً للاطلاع على كل جديد في هذا المضمار، وتعليم علوم الاختيار العام، معتمداً بذلك على نظريات العلوم الاقتصادية والسياسية إذ يستقطب المركز العلماء والطلاب الزائرين والمقيمين من جميع أنحاء العالم، ويعد المركز المنزل المؤسسي لبرنامج أبحاث الاختيار العام، الذي تطور ونضج على مدار نصف القرن الماضي، منذ إنشائه في عام 1957 في جامعة فرجينيا، وكان يسمى في البداية مركز توماس جيفرسون للدراسات في الاقتصاد السياسي، ثم أعيد تشكيل المركز في جامعة فرجينيا للتكنولوجيا تحت اسمها الحالي في عام 1983، ونقل المركز نشاطاته إلى جامعة جورج ماسون.
يلعب الاقتصاد في التنمية البشرية دوراً حيوياً مما يدفع الدول لرسم السياسات العامة والخطط الاقتصادية وإسناد الاختصاصات في المجال المالي للسلطات الدستورية، سواء منها السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية، كي تضبط تلك العملية تشريعياً ومالياً وتقونن الموازنة السنوية بحيث تكون مسألة الرقابة على صرف المال العام من قبل مجالس الشعب كنوع من الرقابة التشريعية والسياسية والإدارية، وتناقش بطريقة علنية ليكون الرأي العام مطّلعاً عليها خاصة أن تلك الموازنات ستترجم بصيغة رسوم وضرائب وتنمية قطاعات ومناطق وأقاليم وتساهم في تحقيق العدالة الاجتماعية ورفع المستوى المعيشي لأبناء الوطن الواحد، وتعيد توزيع ثرواتهم وتخلق فرص عمل لهم وتخفف الفوارق الطبقية فيما بينهم.
إن المجتمعات التي تخرج من أزمة أو حرب تنزِعُ إلى التأكيد على حرية شعبها عبر ضمانات دستورية وهي الحالة الطبيعية لشعب مرّ في عصر سحق للحريات، وامتهان لكرامة الإنسان، وتذوق مرارة التمييز على أسس اللون أو الجنس أو الدين والطائفة أو اللغة أو أي نوع آخر، فكلمة حرية مثلاً ذكرت 56 مرة في دستور راوندا لعام 2003 بعد خروجها من حرب أهلية مروّعة، وكلمة حرية وردت 46 مرة في الدستور التونسي عقب الثورة التونسية، وكذلك كلمة حرية وردت 28 مرة في دستور البوسنة والهرسك بعد حرب أهلية انتهت لتقسيم يوغسلافيا السابقة، أما في الدستور البولندي فقد ذكرت كلمة حرية 67 مرة. فالدستور هو الضامن شبه الوحيد لإعادة بناء أنظمة الدولة من أجل استتباب الأمن والعدل وتكافؤ الفرص ورفاهية المجتمع، أو باختصار من أجل سعادة أبناء المجتمع.
تلعب الحكومة دوراً وظيفياً مهما للغاية في الحركة الاقتصادية داخل المجتمع، وإن تحديد السياسة الاقتصادية سلفاً في الدستور يوجه هذه الحكومة حسب الإرادة الشعبية بما يتواءم مع التوجه الاقتصادي للمجتمع الذي يؤمن بالحرية الاقتصادية وسيادة القانون والحوكمة الرشيدة.
يتوجب على القانونيين المعنيين بكتابة الدستور أن يحرصوا على حماية وتلبية رغبات المجتمع من خلال تشريع سياسات لاتتبع مصالح السياسيين الخاصة والشخصية والحزبية.
لقد خبر السوريون عدم أمانة صناع القرار من سياسيين وعسكريين وتدميرهم لاقتصادهم من خلال سياساتهم "الاقتصادوية" غير الناضجة، والعبثية، ويصعب عليهم أن يثقوا بأداء السياسيين دون تسجيل سياستهم الاقتصادية المستقبلية في الدستور.
إن ضياع أكثر من نصف قرن من التنمية الاقتصادية الحقيقية في سوريا، وضياع الفرص التنموية الهائلة وذلك من خلال التوجه الاشتراكوي أو الليبرالي المجتزأ والمفصّل على مقاسات قوى الفساد الاقتصادي، يجعل السوريين اليوم مهتمين بتطبيق سياسة اقتصادية ليبرالية حقيقية -ليست ليبرالية متوحشة كما يحلو للبعض تصويرها لتخويف الناس مرة عاشرة- تضمن العدالة الاجتماعية ومجانية التعليم والصحة وتضمن الحرية الاقتصادية في آن معا كما هو في معظم الدول الأوروبية والاسكندنافية وكندا والدول الصاعدة مثل تركيا وماليزيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية.
إن تلك السياسة الاقتصادية التي نجحت في بلاد العالم يجب تسجيلها في صلب الدستور كبنود واضحة لا لبس فيه كي لا تكون التوجهات الاقتصادية ألعوبة بيد أحزاب عبثية عابرة للوطنية، همها السلطة وتجريب ايديولوجيات دوغمائية تؤخر سوريا مرة أخرى عن الصعود إلى قطار التنمية الاقتصادية الحقيقية.