ربما اعتاد أهالي مدينة السويداء على أن يستقبلوا الخامس والعشرين من حزيران بمزيد من المرارة والألم، إذ بمثل هذا التاريخ من العام 2018 هاجمت جحافل تنظيم داعش مدينة السويداء من الجهة الشمالية الشرقية وارتكبت مجزرة فظيعة بحق المدنيين أودت بأرواح (127) شهيدًا، ولكن اليوم إذ تحل الذكرى السادسة لتلك المجزرة المشؤومة، فإن مدينة السويداء كان لها رد آخر، يتجاوز مرارة الذكرى عابرًا نحو فضاءات جديدة من الإبداع النضالي.
ففي يوم الخميس الفائت (25 - 7 - 2024) تمكن الحراك الشعبي من انتخاب كيان سياسي (لجنة سياسية) تكون بمثابة القيادة التي تمثل الحراك السلمي سياسيًا وإعلاميًا، وبهذا تكون الاحتجاجات السلمية التي انطلقت منذ منتصف شهر آب من العام الفائت قد أثمرت منجزًا طالما انتظره الكثيرون، ليس من أهالي مدينة السويداء فحسب، بل عموم السوريين.
لعل الشفافية والسلاسة التي اتسمت بهما العملية الانتخابية الجديدة في السويداء تحيلان إلى المزيد من الاطمئنان بتجاوز جميع أشكال التضليل والاحتيال والاستهتار بوعي الناس من خلال المسرحيات سيئة الإخراج التي مارستها الكيانات الرسمية للمعارضة طيلة أكثر من عقد.
التجليات الفعلية للوعي الديمقراطي
لعل المقاربة الجدية لفهم العملية الديمقراطية كما جرت في السويداء توجب علينا الوقوف عند أمرين:
أولاً: لعل معظم الكيانات القيادية التي تشكلت منذ انطلاقة الثورة السورية في آذار 2011 غالبًا ما تكون قد تشكلت خارج حدود الجغرافيا السورية، (المجلس الوطني – الائتلاف) ثم يؤتى بها لتمثل السوريين وتعبر عن تطلعاتهم، ولئن استطاعت تلك الكيانات الوافدة من خارج الحدود فرضَ ذاتها على السوريين سواء قبلوا بها أم رفضوها، وذلك نتيجة استقوائها برعاتها الخارجيين، إلا أن تمثيلها يبقى منقوصًا، مثلها في ذلك كمثل أي سلطة أمر واقع تفرض وجودها على المواطنين بسطوة القوة والقدرة على إقصاء وإسكات الصوت الآخر، ولعل هذا التصنيع الخارجي للكيانات القيادية قد أسهم في تأسيس، ومن ثم تعزيز الفجوة بين الحراك الشعبي أو حاضنة الثورة والأطر القيادية التي تمثلها. أما أن تنبثق قيادة سياسية من صفوف الحراك وتكون جزءًا من بنيته ونسيجه كما هو على الأرض، وتستمد شرعيتها من حاضنتها الشعبية، فتلك خطوة يمكن اعتبارها مفصلاً نضاليًا حقيقيًا على مستوى الوعي والسلوك معًا.
ثانيًا: لعل الشفافية والسلاسة التي اتسمت بهما العملية الانتخابية الجديدة في السويداء تحيلان إلى المزيد من الاطمئنان بتجاوز جميع أشكال التضليل والاحتيال والاستهتار بوعي الناس من خلال المسرحيات سيئة الإخراج التي مارستها الكيانات الرسمية للمعارضة طيلة أكثر من عقد، وهي بسلوكها التضليلي هذا لا تتمايز، بقدر ما تتماهى مع النماذج السلطوية بدقائقها وتفاصيلها، إذ طالما عُرف من سيكون رئيسًا للائتلاف سلفًا، إذ يتم تعيينه أولاً، ومن ثم الحشد للتصويت عليه، وغالبًا ما يكون هو المرشح الوحيد. ولئن دشّن بشار الأسد مجيئه إلى السلطة بعرفٍ قبيح تمثل بتغيير الدستور ومن ثم إعادة تفصيله على مقاس شهوته للسلطة، فإن استنساخ هيئة التفاوض لهذا العرف من أجل استمرار الرئيس الحالي لفترة قادمة إنما يؤكد زيف التجارب الديمقراطية التي أفقدت الكيانات الرسمية للمعارضة مصداقيتها أمام جمهور الثورة قبل الآخرين. ولعل من هذا التمايز ندرك أهمية التجربة الديمقراطية في السويداء، من جهة مصداقيتها وشفافيتها أولاً، إذ إن عدد المرشحين لعضوية اللجنة السياسية تجاوز السبعين، بينما العدد المحدد والمطلوب لعضوية اللجنة السياسية هو (11 عضواً)، ولعل اللافت في نتائج العملية الانتخابية هو فوز أربع سيدات من أصل (11) في عضوية اللجنة، وهذا بحد ذاته تجسيد حقيقي لحضور المرأة ودورها الهام والمؤثر في الحراك الشعبي على العموم، وذلك بعيدًا عن التقليد الباهت لمفهوم (الكوتا) الذي حظي بترويج العديد من المنظمات المدنية وتم استثماره بطريقة شكلية خالية من أي مضمون جوهري، كما لا ينبغي أن تفوتنا الإشارة إلى أن استبعاد أي شكل من أشكال المحاصصة الحزبية أو الإيديولوجية عن العملية الانتخابية لهو أمر يؤكد الارتقاء بالوطنية السورية وتجاوزها للولاءات الفرعية الأخرى.
لعله إذا ما أُنجزت هذه الخطوة وتكللت بانتخاب قيادة سياسية للحراك على غرار العملية الانتخابية في السويداء، فإن من شأن ذلك أن يجعل التنسيق بين القيادتين الجنوبية والشمالية أمرًا ممكنًا.
نحو توحيد ساحات الكرامة
بعد نحو أسبوعين، يكون الحراك الشعبي في السويداء قد أتم سنة كاملة على انطلاقته، وعلى الرغم من مجمل عوامل النجاح التي نهضت بالانتفاضة سواء من جهة التنظيم أو الحفاظ على السلمية أو انسجام الشعارات والمطالب مع تطلعات عموم السوريين، وكذلك انسجامها مع القرارات الدولية، إلا أن واقع الحال يؤكد أيضًا أن أشد الناس تفاؤلاً بانتفاضة السويداء لم يكن يذهب إلى الاعتقاد بأن هذه الانتفاضة سوف تبلغ كل ما تريد في المدى القريب المنظور، أو أنها سوف تحقق نتائج آنية من شأنها أن تغير سيرورة المواجهة مع نظام الأسد تغيرًا مباشرًا، ولكن ما هو مؤكد في الوقت ذاته هو إيمان الكثيرين بأن هذا الحراك سيكون نواة لمفصل نضالي جديد يستلهم ثوابت ثورة السوريين ولكنه يجدد ويطور من أساليب المواجهة. وبالتالي لا بد من اتساع تلك النواة عبر تلاحمها مع موجات الاحتجاج الشعبي في مناطق أخرى من سوريا، وخاصة مع اعتصام الكرامة الذي انطلق في مطلع شهر تموز الجاري في مناطق عفرين واعزاز وريف حلب الشمالي وبعض أرياف إدلب. إذ ثمة ما يجمع بين موجات الاحتجاج الشعبي عبر تموضعاتها الجغرافية المختلفة، سواءٌ من جهة إجماعها على التمسك بحق السوريين في عملية التغيير السياسي ورفض العودة إلى سوريا الأسد ما قبل 2011، أو من جهة إصرار السوريين على استعادة المبادرة الوطنية والمشاركة الفعالة في صياغة مستقبل بلادهم. أضف إلى ذلك أن الحراك المتمثل باعتصام الكرامة في الشمال السوري كان قد خطا خطوة باتجاه إنتاج قيادة سياسية تستمد شرعيتها من خلال تماهيها مع هموم وتطلعات السوريين وتحسس معاناتهم وليس من استقوائها بالخارج وتماهيها مع أجنداته، ولعله إذا ما أُنجزت هذه الخطوة وتكللت بانتخاب قيادة سياسية للحراك على غرار العملية الانتخابية في السويداء، فإن من شأن ذلك أن يجعل التنسيق بين القيادتين الجنوبية والشمالية أمرًا ممكنًا، بل واجبًا توجبه المصلحة الوطنية ليكون الرد المطلوب على ما يستهدف قضية السوريين سواء من جهة حملات التطبيع المتلاحقة والمتسارعة مع نظام الأسد، أو من جهة تهافت الكيانات الرسمية واستمرارها في التماهي مع الإرادات الإقليمية والدولية بغية الحفاظ على مصالحها الذاتية الضيقة.
ربما لا يكون المطلوب في الوقت الراهن أكثر من عمليات التنسيق والتضامن المتبادل عبر توحيد الشعارات والأهداف وتزامن المظاهرات وجعل الصوت موحدًا، وذلك نظرًا لتقطع أشلاء الجغرافيا السورية وكذلك نظرًا لخصوصية كل منطقة من حيث الظروف الأمنية والميدانية. ولكن من شأن هكذا مبادرة أن تفتح آفاقًا جديدة نحو وحدة الحراك السوري، ومن ثم وحدة قوى الثورة السورية.