كلّما انزاحت القضية السورية عن أولويات الاهتمامات الدولية ازداد السوريون إحساساً بالإحباط والخذلان، لشعورهم بأن العزوف الدولي عن مأساتهم المزمنة إنما يعني مساهمةً عملية في تعزيزها، إلّا أن هذا الشعور العام باليتْم أو الاستياء غالباً ما يكون متزامناً مع التفاتة السوريين أنفسهم إلى ذواتهم التي لا ينبغي أن تُعفى من المساءلة عمّا يمكن أن تقدّمه أو تفعله حيال هذا التجاهل العالمي لقضيتهم، إذ ليس من المنطقي والمعقول أن تصبح القضية السورية مجرّد وديعة تتبادلها الدول، أو تتفاوض عليها فيما بينها وتعقد البازارات دون أن يكون لأصحاب القضية أي دور في رسم ملامح مصيرهم.
ولعله انطلاقاً من هذا التصوّر تتجه أنظار السوريين إلى ردود الفعل الذاتية السياسية حيال قضيتهم، وفي مقدمتها دور وفاعلية الكيانات الرسمية للمعارضة، وما الذي يمكن أن تقدّمه من مُنجزٍ عملي من شأنه أن يمنحها مصداقية توازي الدور الذي تدّعيه لنفسها، وفي هذا السياق يمكن الوقوف عند الاجتماع الذي عقدته هيئة التفاوض السورية في يومي العاشر والحادي عشر من حزيران الجاري في مدينة جنيف، وتأتي مبادرة هيئة التفاوض إلى هذا اللقاء في غمرةِ جملةٍ من الأحداث العالمية والإقليمية ذات الارتداد المباشر على الحالة السورية.
على المستوى الدولي والعربي
لا شك أن الحرب الروسية على أوكرانيا وكذلك حرب إسرائيل على غزة قد عزّزتا النأي الأميركي والأوروبي عمّا سواهما من أحداث، وفيما تشير أغلب المعطيات الميدانية والسياسية إلى عدم وجود أفق قريب لنهاية الصراع الروسي الأوكراني باعتباره صراعاً لا يمكن حصره ببعده الثنائي الروسي الأوكراني فحسب، بل بامتداده الروسي الأوروأميركي، فإنه من جهة أخرى لا تبدو الإدارة الأميركية راغبة في إضافة أي مسائل أخرى إلى أجندتها الراهنة، على الأقل قبل حلول موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة في شهر تشرين الثاني المقبل، ومن هنا يأتي حرص إدارة بايدن على عدم اتساع حرب غزة إلى خارج حدودها، تزامناً مع استمرار القدرة على احتواء الأطراف الإقليمية ذات التأثير المباشر في حرب غزة كإيران ونظام دمشق وحزب الله اللبناني.
ومن جهة أخرى، لعله من الصحيح أن مسار التطبيع العربي مع نظام الأسد لم يثمر عن نتائج ملموسة حتى الآن، وأن ما بين قمة جدّة في أيار 2023 التي دشّنت عودة بشار الأسد إلى الجامعة العربية، وقمة المنامة في الشهر ذاته من العام 2024، لم تفرز أي نتائج ملموسة من شأنها أن تدلّل على استثمار فعلي لحالات التطبيع الرسمي مع نظام دمشق، ولكن من جهة أخرى، فإن مجرّد استمرار قطار التطبيع سارياً على الرغم من استياء الدول العربية المطبِّعة ذاتها من التعاطي السلبي لحكومة النظام السوري مع مجمل مطالب تلك الدول، فإنه يبقى مبعث ريبة شديدة، فما يعلمه الجميع أن نظام الأسد كان خاذلاً لجميع أقرانه، ليس فيما يخص الشأن السياسي فحسب، بل حتى في الشأن الأمني المتعلق بتصدير الكبتاغون ونشاط الميليشيات الطائفية الإيرانية التي تجعل من سوريا منطلقاً لها في تهديدها المستمر لأمن الدول العربية المجاورة، إذ كان التفكير المنطقي يقتضي أن يكون هذا الخذلان الأسدي حافزاً لإعادة النظر والتقييم لسلوك الأسد ونكثه لوعوده واستمراره في نهجه المخادع لأقرانه، وبالتالي اتخاذ موقف عربي يحافظ على شيء من كرامة المطبّعين وماء وجوهم قبل تجاهله لشناعة نظام الأسد، إلّا أن التجسيد العملي المكافئ لسلوك الأسد كان باستكمال مراسم فتح السفارة السعودية في دمشق وتفعيل العلاقات الرسمية.
وما لا يمكن تجاهله في هذا السياق هو أن قطار التطبيع العربي مع نظام دمشق، والذي اتخذ من مفهوم (خطوة مقابل خطوة) قناعاً له، حاول أن يوجد أصداء أو امتدادات له في مؤتمر بروكسل الذي انعقد في السابع والعشرين من شهر أيار الماضي، وذلك ضمن مفهوم ما يُدعى بـ (التعافي المبكر) بمسعى روسي تؤيده دول عديدة في مقدمتها رومانيا وإيطاليا والنمسا واليونان.
لعله من الصحيح أن مسار التطبيع العربي مع نظام الأسد لم يثمر عن نتائج ملموسة حتى الآن.
ما الذي تملكه هيئة التفاوض للمواجهة؟
لا ريب أن سياق الأحداث المستجدة عالمياً وعربياً يجسّد بارتداداته المباشرة على الحالة السورية تحدّياً كبيراً للجهات الفاعلة في المعارضة الرسمية السورية، باعتبارها من يتبوأ تمثيل السوريين في المحافل الدولية، وربما هذا ما دعا هيئة التفاوض في لقائها المشار إليه أن تحرص على دعوة حشد كبير من ممثلي الجهات الدولية، فضلاً عن إشراكها لعدد من منظمات المجتمع المدني الفاعلة في المشهد السوري، ولعل اللافت أيضاً دعوتها لممثلي الجالية السورية في أميركا في سعيٍ يوحي بأن ثمة تنسيقاً بل إرثاً من التعاون بين الكيانات الرسمية للمعارضة وتلك الجالية، ولعل البعض يرى في ذلك محاولةً من هيئة التفاوض لاستثمار منجز الجالية السورية في أميركا والاستقواء بجهدٍ لم يكن لها أية صلة به من قبل، كما يرى البعض أن شراكتها المزعومة مع الجالية السورية هي مجرّد ادعاء، علماً أن مبدأ الشراكة والتنسيق المشترك والتكامل في العمل بين الجهات الفاعلة في الشأن السوري هو مطلب جميع السوريين، ولكن يبقى السؤال الأهم – في نظر غالب السوريين – عن فحوى ما يمكن أن تفعله هيئة التفاوض في مواجهة التحديات الراهنة التي تواجه القضية السورية، وهو ما يدعو إلى النظر في البيان النهائي للقاء، وكذلك في مجمل التصريحات الإعلامية الصادرة عن مسؤولي الهيئة، والتي تؤكّد بمجملها على رفض هيئة التفاوض لأي حلول تتجاوز القرار الأممي ( 2254 ) بسلاله الأربع كاملةً، كما تؤكّد حرصها وتركيزها الشديدين على قضيتي المعتقلين واللاجئين السوريين، مع تحذيرها من مغبّة استمرار التطبيع العربي المجاني مع نظام الأسد، وكذلك تحذّر من الفهم الخاطئ لمفهوم (التعافي المبكر) الذي من شانه أن يمنح نظام الأسد هامشاً من التفلّت من الحصار والالتفاف على القرارات الأممية.
سوريا يوجد فيها جيوش لأعظم قوتين عالميتين، إضافة إلى جيوش لدول إقليمية كبرى، فضلاً عن تشظّي الجغرافيا السورية وخضوعها لسلطات أمر واقع متعددة.
ولعل جميع تلك المواقف تبدو مناسبة وكافية – وفقاً لهيئة التفاوض والائتلاف معاً – لصياغة خطاب يوحي للسوريين بحرص المعارضة الرسمية على ثوابت مطالب السوريين وعدم التفريط بتضحياتهم، كما يوحي بتجديد المعارضة مطالبتها وحثّها للمجتمع الدولي على ممارسة المزيد من الضغط على نظام الأسد لإرغامه على التعاطي الجدّي مع العملية السياسية وفقاً للمرجعيات الأممية، ولكن السؤال الأهم: ما هي السبل التي يمكن من خلالها أن تتحول تلك المواقف إلى برامج عمل، وهل هناك برامج أو خطط ذات معالم محددة توضح ما يمكن فعله في المرحلة القادمة؟ وهل هناك سقف زمني محدد لأي هدف مُعلن؟ القائمون على هيئة التفاوض والائتلاف يؤكدون أن الهدف من مسعاهم ينحصر في (إبقاء القضية السورية على لائحة الاهتمام الدولي، وعدم التنازل عن حقوق السوريين، والتذكير المستمر بمعاناتهم، ومطالبة المجتمع الدولي بإيجاد حل للقضية السورية من خلال تفعيل القرارات الأممية)، إذاً وكأنهم يقولون: لسنا ملزمين بأي نتيجة أو بأي جدول زمني لعملنا، لأننا نعمل ضمن كيانات نضالية ثورية، لا تملك إمكانيات ومقوّمات الدولة، ويضيف هؤلاء: سوريا يوجد فيها جيوش لأعظم قوتين عالميتين، إضافة إلى جيوش لدول إقليمية كبرى، فضلاً عن تشظّي الجغرافيا السورية وخضوعها لسلطات أمر واقع متعددة، فما عسانا أن نفعل حيال ذلك، وماذا نملك من أسباب القوة سوى هذا الخطاب الذي يصدر عن اجتماعاتنا؟ ولكن بالمقابل، فإن السؤال الأهم لدى كثير من السوريين: لئن كان الخطاب المشار إليه يبدو ضرورةً وربما وسيلةً نضالية مناسبة في مرحلة معيّنة، فإن الاكتفاء به وتحوّله إلى خطاب نمطي ألا يمكن أن يؤدّي إلى إفراغه من مضمونه وتحوّله إلى ذريعة أو غطاء لستر التقاعس والفشل، وكذلك ألا يمكن أن يتحوّل إلى مجرّد شعار ( مُمانع ) لا يحتفظ إلا بمحتواه الوظيفي؟