"إنْ لم تهاجر اليوم فستهاجر غداً" وجدتُ هذه العبارة، بينما كنتُ أمشي في أحد شوارع مراكش بالمغرب، بعد زيارة سريعة بهدف المشاركة بمناقشة أطروحة دكتوراه، أُرفِقَتْ العبارة بحساب الإنستغرام الخاص بصاحب الإعلان. تواصلتُ معه بهدف التعرف إلى نشاطاته، وأوضحت له أنني لستُ من عالم المهاجرين بل من عالم اللاجئين نتيجة مآلات الوضع في سوريا، شرح لي أنه يقدم خدمات للراغبين من المغاربة بالهجرة، سواءٌ أكانت هجرة نظامية من خلال عقود عمل أو هجرة غير نظامية (تهريباً)، ذلك أن طلبات لجوء المغاربة لا تقبل في أوروبا لأن أوضاع بلدهم مستقرة، لذلك يقيم نفر كبير منهم بـ "الأسود" وفقاً للتسمية الشائعة، إن لم يتح للراغب بالهجرة عقد عمل موثق.
"إنْ لم تهاجر اليوم فستهاجر غداً" جملة ناعمة، هادئة، ذات بعد فلسفي، تتحدث عن حتمية الهجرة، وليس بسبب الحدث المشرقي الحاضر أياً كان لونه بل بسبب المستقبل كذلك. يبدو أنه حُكم على أبناء تلك الجغرافية بحتمية الهجرة القسرية الداخلية أو الخارجية، الناجمة ليس عن تغيرات المناخ فحسب، بل عن حروب لا نهاية لها، تبدأ أولها بالمطالبة بحقوق اغتصبت حديثاً؛ أي تنطلق من الحاضر، وتنتهي آخرها بالبحث عن ثارات وانتقامات دينية أو قومية منذ مئات السنين؛ أي أن الماضي من يولّدها، مما جعل تلك الجملة تختصر نمط الحياة لتقول: الهجرة والانتقال والموت حنيناً قدرُ هذه الجغرافية ماضياً وحاضراً ومستقبلاً!
منذ قرن ونيف كانت الهجرة أحد أبرز الحلول الناجعة لأبناء تلك الجغرافية، كأن العالم قُسِّمَ إلى حصص، وكانت حصة هذه الجغرافية: الهجرة واللجوء والحنين
يمكننا العودة إليها كسائحين بجوازات سفر أوروبية أو لزيارة الأهل، بعد سنوات كما هو حال مغاربة أوروبا مثلاً، إذ يحدثني صديق مغربي أنه حين عاد بجنسيته الأوروبية وجد أن بلاده أحلى وأجمل، بل قال: ما أجمل بلداننا كحالة مؤقتة، عابرة، من الصعب أن تغدو دائمة في حياتنا، مناخها مشمس وناسها طيبون ومطاعمها رائقة، لكن نمط حياتها لا يمد الكثير من الصلات مع الدائم المستقر بل مع العابر القلِق!
من السهل اجتراح الأسباب، أو الحديث عن نظرية المؤامرة، أو جلد الذات، لكن الواقع يقول: منذ قرن ونيف كانت الهجرة أحد أبرز الحلول الناجعة لأبناء تلك الجغرافية، كأن العالم قُسِّمَ إلى حصص، وكانت حصة هذه الجغرافية: الهجرة واللجوء والحنين.
الفرق الرئيس بين اللجوء والهجرة وفقاً للبحث الاجتماعي والقانوني والسياسي، كون اللجوء حالة اضطرارية ونتيجة وضع متفاقم في البلد الأم سواء أكان سبباً عاماً كحالة المجاعات أو الحروب أو سبباً خاصاً كما حالة الاعتقال السياسي أو سواه من اضطهادات قومية أو جندرية أو جنسية وفقاً للقوانين الغربية، أما الهجرة فتعني البحث عن سبل حياة أفضل، مع أن الواقع يكشف أن هناك اختلاطاً وتقاطعاً بين حالتي الهجرة واللجوء كما هو الحال في الوضع السوري، بخاصة لمن لديه عمل في بلد مستقر، غير عنصري.
هناك لافتة أخرى، تم تعليقها في رؤوس معظم السوريين، سواء أكانوا داخل سوريا أو في الدول المجاورة أو ممن يعيشون في الخليج تقول: إنْ لم تلجأ اليوم فستلجأ غداً! تتحول إلى مرآة يجدونها في صباحاتهم، أو موضوع حديث للجميع ينبئ عن حالة اللايقين التي يعيشونها! معظم السوريين اليوم ينامون ويستيقظون على هذه الجملة، تحدثني صديقة تقيم في دولة خليجية بموقع بحثي وراتب مقبوليْن لحياة كريمة تبحث عن "فيزا شنغين" أو طريقة لجوء تليق بها، تقول لي: وماذا بعد الستين؟ لا أريد أن أعود إلى بطش النظام كخيار وحيد في الحياة، أقول لها: من المبكر على هذا السؤال لابنة حيطان الأربعين أو بعدها أو قبلها، أين أنت من الستين! واسمك غير مدرج في قوائم "إرهاب النظام الإرهابي" بل تزورين أهلك كل سنة مرة هناك، ترد علي: بعد أن عشنا ممكنات الحياة، صار من الصعب أن نعود إلى قنّ النظام حتى لو لم يكن لدي مشكلة سياسية معه، مشكلتي ومشكلة كثيرين باتت مشكلة وجودية، فالحياة أوسع بكثير من أقنان الدجاج والقمع لديه، الحياة رحبة، لماذا أجعلها ضيقة!
(إنْ لم تلجأ اليوم فستلجأ غداً) متى ينتهي حضور هذه الجملة في حياة السوريين؟ وما السبيل إلى إطفاء بريقها حين تمر أمام عيونهم؟
السؤال ذاته بطريقة أخرى أسمعه من صديق يعمل أستاذاً جامعياً في جامعة خليجية: سوريون وفلسطينيون وأردنيون وعراقيون ويمنيون وتوانسة و....
(إنْ لم تلجأ اليوم فستلجأ غداً) متى ينتهي حضور هذه الجملة في حياة السوريين؟ وما السبيل إلى إطفاء بريقها حين تمر أمام عيونهم؟
هذه الجملة صارت عامل حسد وغيرة من شركاء تلك الجغرافية المشرقية حيث لا تشملهم قوانين اللجوء وأصول التعامل مع ضحايا اللجوء، على الرغم مما حدث من تراجع كبير جداً في آليات التعامل مع اللاجئ في السنوات الأخيرة أوروبياً، بل إن سوريين ومغاربة وأتراك قديمين في أوروبا باتوا ينظرون إلى السوريين اللاجئين حديثاً شذراً نتيجة بعض الاهتمام في تفاصيل حياتهم مما لم يستفد منه أولئك اللاجئون القدماء من قبل حين قرروا الهجرة أو جاؤوا بهدف العمل قديماً!
ماذا لو غدا لدى السوري الجملة التالية "إنْ لم تهاجر اليوم فستهاجر غداً" خياراً آخر، بدلاً من جملة "إنْ لم تلجأ اليوم فستلجأ غداً" كم سورياً سيهاجر سنوياً؟ ومتى تغدو تلك الجملة الترفة حاضرة في حياة السوريين، ومتى سينتقلون من اضطرار اللجوء نحو الرغبة في الهجرة، أي السعي لتحسين أحوالهم وليس الاضطرار للجوء خوفاً من قتل، أو انتقام، أو اعتقال، أو ثأر، أو لاستحالة سبل العيش في بلدهم، أو فقدان الأمل وما أصعب فقدان الأمل وانغلاق السبل، إذ قد يدفعك إلى الانتحار أو القيام بفعل عنيف!
لمقاربة الحياة وعيشها في معظم دول العالم طرق كثيرة، يختار الإنسان أحدها وفقاً لما يريد أو بحسب مهاراته أو أقداره، أو الجهد الذي يبذله، أو حظه أحياناً.. غير أن تلك الطرق تضيق إلى حد كبير بحيث يغدو أحد أفضلها وأأمنها: الرحيل وفقدان الذكريات والانتقال إلى مجتمعات لا تشبهك بشيء، فتغدو بملء إرادتك غريباً ومقتولاً بالحنين والذاكرة النازفة شوقاً وألماً، بحيث إنك تردد كل يوم لأهلك وأصدقائك المقيمين هناك، وأنت تتجرع كأس الفقد والشعور بالبرد الشديد: "إنْ لم تلجؤوا اليوم فستلجؤون غداً، هلموا إلى حياة اللجوء والنزف الدائمين" كأنك بذلك تنتقم من ذاتك أو جغرافيتك أو ذاكرتك أو ربما تنتقم منهم وأنت تحثهم على ضرورة السعي لحياة آمنة مستقرة، كما تكرر دائماً، تلتقي بكثيرين في حياتك وجغرافيتك الجديدة، تنظرون إلى وجوهكم كأنكم لم تلتقوا من قبل، تهربون من اللقاء التالي على أمل اللقاء هناك على تلك الجغرافيا التي تلد أطفالها كمقاتلين مؤجلين في رحلة مريرة عنوانها الهجرة واللجوء!