لم يخطر ببال ابن الثانية والعشرين حين بدأت الثورة السورية أنه سيحمل يوماً السلاح في وجه أحد، أو يقود معركة، ذلك أن سمعة عائلته ومشيخة "عيال الأبرز/ أخوة هدلة" لم ترتبط بحمل السلاح في القرن الأخير، بقدر ما ارتبطت بحل المشاكل بين من يقصد مضافتهم، وكذلك قضاء مصالح محددة لأبناء القبيلة. تكاد أجندة الشيخ أن تكون ممتلئة، وهي أجندة غير تقليدية لأنها تعتمد على ما يأتي الناس من أجله ووفقاً لحاجاتهم، وليس وفقاً لوقته هو، منها ما يُقضى باتصال ومنها ما يتم توضيح تفاصيله لمن يطلب وتعذر القيام به، نظراً لعدم قانونيته أو منطقيته، والكثير مما يطلب يبدو على شكل وساطة اجتماعية أو مع سلطات الأمر الواقع. مستفيداً من الاحترام الذي فرضته سمعة العائلة وتاريخها في المشيخة الذي يمتد أكثر من سبعة أجيال على شاطئ الفرات، للاستجابة الاجتماعية أو السلطوية لوساطاته!
وكان يتساءل: أمِنَ الحكمة أن يكون خيارُ المشيخة مسايرة سلطة الأمر الواقع، بدلاً من حمل السلاح في وجهها، خاصة أن قضاء مصالح قاصدي مضافة الهفل، يقتضي مد الأيادي مع السلطة في مجتمع عشائري لا يعرف حدوداً للواسطة، ولا يقرأ تحولات الدولة ومفاهيمها، وهذه الوساطات تبدأ بالتوظيف وتنتهي بإخراج سجين سياسي أو جنائي. حين يقيم الشيخ والده أو جده في العاصمة إبان جلسات المجلس النيابي فإن معظم وقته يصرفه لقضاء حاجات أبناء القبيلة.
لا يعرف عن الشيخ الحالي أو الشيوخ السابقين للقبيلة أنهم يأخذون مقابلاً مادياً مباشراً من قاصديهم أو زوارهم أو متوسطيهم، غير أن أبناء القبيلة لا يتخلون عن المضافة واحتياجاتها، أو ما يتطلبه اسم القبيلة أو سمعتها، أما إدارة الحاجات اليومية للعائلة فإنها تعتمد، وفق ما يقال، على مساعدات مادية تأتي بين الفينة والأخرى من مشايخ عديدين من الخليج العربي، احتراماً لمكانة القبيلة وتاريخها ووفاء لمرحلة ما قبل الدولة، إذ لا يعرف أبناء الشيخ وعائلته العمل اليدوي بالشكل المباشر للعمل، لكن يمكنك أن تقول كما هو شأن الوجهاء الاجتماعيين: عملهم هو قضاء حوائج الناس!
كان إبراهيم يراقب والده (عضو البرلمان السوري حتى وفاته منتصف عام 2016) المعروف بهدوئه ورزانته وقلة كلامه، متحسراً على حنكة جده عبود الجدعان الهفل الذي توفي قبل عامين من ولادة إبراهيم عام 1989، الذي كان يوصف بأنه داهية ورجل محنك وسياسي ماهر، شارك في الحياة السياسية السورية منذ الاستقلال، وتمكن من إضافة لقب شيخ رسمياً لوالده جدعان (في سجلات النفوس السورية) وعرف بمناصرته لحروب القبيلة لتؤكد شوكتها وسلطتها أمام القبائل الأخرى وإبان ترسيم الحدود الصحراوية السورية مع العراق، وقد حدثه والده عن أن المشيخة لا تكون إلا بالقوة متمثلة بالدفاع عن حياض القبيلة وكذلك النخوة والشهامة ومثاله ما فعلته القبيلة مع النازحين الأرمن، والبعد التاريخي حيث كان جده حاكماً لدير الزور في نهايات العهد العثماني الأول حوالي 1862 خاصة أن جد أعمامه هو روبن هود الفرات رمضان شلاش.
شاهد بعينيه لأول مرة كيف أن هناك قوى جديدة في سوريا لا تكترث بالتاريخ أو النسب أو الشجاعة، لغتها الوحيدة هي السلاح والتبعية لمشغل دولي ما
راقب ابن الثانية والعشرين بَطَرَ بعض أبناء عشيرته إبان السيطرة على آبار النفط مطلع الثورة السورية، بعد انسحاب النظام منها، بحيث إن أحدهم غلى إبريق الشاي على الدولارات بدلاً من أن يغليه على الجمر، وشاهد بعينيه انحرافات الثورة من بعض المحسوبين على الجيش الحر الذي تشكل على شكل جماعات أهلية ثم دخول جبهة النصرة وبعد ذلك داعش الذي غيب والده أياماً.
شاهد بعينيه لأول مرة كيف أن هناك قوى جديدة في سوريا لا تكترث بالتاريخ أو النسب أو الشجاعة، لغتها الوحيدة هي السلاح والتبعية لمشغل دولي ما، وكان لا يزال يتلمس خطاه الأولى في قراءة الحياة وقد كان يؤلمه أن أحد أقاربه الذين عملوا في المخابرات العسكرية من بلدة ذيبان يجند شبيحة لقمع مظاهرات منطقة الميادين مطلع الثورة!
الشيخ إبراهيم ممتنٌ للظرف الطارئ الذي جعله شيخاً أول للقبيلة في منطقة الفرات، حين فوّضه أخوه الشيخ مصعب المقيم بدولة قطر، هروباً من جو المعارك والمشاحنات وداعش وسواها، وكلاهما يدرك أن الهدف من هذا التفويض القضاء على فكرة أن تذهب المشيخة لأحد الأعمام المباشرين، أو سواهم، ولا ينظر التكليف بالمشيخة للكفاءة أو الدراسة أو سواها، بل تنظر إلى العمر فحسب حيث تكون للابن الأكبر أو الأخ إن كان الابن قاصراً.
ليس بين قسد والشيخ إبراهيم تاريخ عداوة طويل بحيث انقطعت سبل التفاهم بينهما، بل نفور وتعارض سلطة، فقسد ليست نداً له بمفهوم الرأسمال الاجتماعي، ولم تقطع الخيوط معه من قبل واتصالاته مباشرة مع قادتها المحليين الذين يلبون الكثير من وساطاته العشائرية، بل سمحت له أن يكون له معبره الخاص على نهر الفرات باتجاه الضفة الأخرى، حيث لا يضطر أولاد عمه لدفع إتاوات للمعابر الأخرى، أما أن تقول اليوم قسد: إنه المطلوب الأول لديها فأمر مضحك له ولأقاربه، وهو يعلم أن القرارات الاستراتيجية حول المنطقة ليست بيد قسد بل بيد مشغلها الأميركي!
ريف دير الزور الشرقي من الضفة اليسرى، أو لنقل جغرافية قبيلة العقيدات، تعني بالنسبة لـ قسد ثلاثة أمور رئيسية:
- المشاركة في سردية الأميركيين كمسوغ مباشر للبقاء في سوريا في أن هناك خلايا نائمة لداعش وتجب محاربتها!
- إبقاء المنطقة ورقة ضغط مهمة بيد قسد بانتظار الحل النهائي في سوريا.
- المحافظة على استثمار آبار النفط والغاز بصفتها الأكثر إنتاجاً في سوريا.
يسمع يومياً في مجلسه السردية التالية؛ فيتعاطف معها: هذا نفطنا أمام عيوننا، يأخذه الـ بي كي كي ليموّل عملياته في تركيا أو لينمّوا المناطق ذات الأغلبية الكردية، فيما نحن محرمون من خيراته وخدماته كـ "العيس يقتلها الظمأ والنفط من أرضنا محمول"!
لا يخطر ببال الرجل أن ما قام به سيفسر بأنه لأجل أحمد الخبيل رئيس مجلس دير الزور العسكري المعتقل لدى قسد، وهو آخر من يمكن أن يقوم لأجله الشيخ إبراهيم، نظراً لسمعته السلبية والخلاف المسكوت عنه بين عشيرة البوكامل (عشيرة الشيخ إبراهيم) وعشيرة البكير (أحمد الخبيل)، بل إن فزعته الحالية تعني العض على جرح الخلاف العشائري داخل القبيلة. وأن ذلك الحدث سبب مباشر لتتم مطالبة قسد بعدم الإساءة لأبناء القبيلة، وضرورة تقديم المزيد من الخدمات البلدية خاصة أن هناك تذمراً شعبياً من طول الرحلة مع قسد أو التعايش مع وجودها، فالناس تريد أن تستأنف حياتها من جديد وأن لا تبقى حياتها معطلة أو مؤجلة!
أما القول إنه ثار بتحريض من النظام، أو أن مقاتلين معه جاؤوا من جهة النظام فدليل أن من يقول ذلك لا يعرف ديموغرافية المنطقة، أو أنه يتقصد خلط الأوراق، لأن أبناء عمومة إبراهيم من (العلي والمحمد الظاهر) يعيشون في الميادين وقريتي الطيبة ومحكان أي الضفة اليمنى، وبالتالي فإنه من الطبيعي أن يعبروا لمساندة ابن عمهم بصفتهم أقارب دم!
بل إنه رفض دفع ثمن إعلان الولاء للنظام السوري من قبل، لذلك غاب اسم مشيخة العقيدات عن المجلس النيابي لأول مرة منذ تأسيس الدولة السورية (غير مأسوف على ذلك المقعد طبعاً)، وتمّ اختيار شبيح من شبيحة النظام بعد وفاة والده عام 2016، إضافة إلى أن إقامة شقيقه الشيخ مصعب في دولة قطر لا ترضي النظام، ولا مواقف الشيخ إبراهيم الثورية تريحهم!
وهنا لا بد من توضيح أن الآلاف من السوريين الذين يعيشون في جهة قسد يقبضون رواتبهم من جهة النظام، وهناك يومياً أطباء ومحامون وموظفون يتنقلون بين الضفتين، ويذهب الناس يومياً بالمئات لتسجيل زواجهم ومواليدهم وقضاء كل حاجاتهم الحكومية. وحين سقطت داعش قبل سنوات هاجر معظم أبناء الشامية (الضفة اليمنى) إلى أبناء عمهم في الضفة المقابلة خوفاً من بطش النظام وميليشياته، واليوم كذلك تهاجر النساء والأطفال مع أموالهم وذهبهم إلى الضفة المعاكسة، خوفاً من سرقات جنود قسد!
يدرك الشيخ إبراهيم أنه يعيش في الزمن الضائع، وأن الموت كان بانتظاره في أكثر من موقف، ذلك أن سلطات الأمر الواقع لا تريد صوتاً عالياً فوق سقف ما تقرره أو توجه به
يدرك شيخ العشيرة الشاب الذي ترعرع في عهد كلمة (لا)، عهد الثورة السورية أن حياة الناس في تلك المنطقة لا تتحمل الكثير من التهجير، وأنهم اقتصادياً ونفسياً تحملوا الكثير، فقد مرت على هذه المنطقة قوى الجيش الحر والنصرة وداعش ولاحقاً قسد وهناك قوى دولية وإقليمية كثيرة متحفزة ومتصارعة!
يعلم أن الفزعة العشائرية هي حركة كرامة واحترام ونخوة، وأن ميزان القوة العسكرية ليس في كفته، لكنه قال وقال أقاربه معه: لا، حتى لا تبقى غصة في حلوقهم! وهو ما فعلته قبيلة العقيدات والبوكامل في وجه الفرنسيين والإنكليز ذات يوم، مثلما قالها سوريون كثيرون تجاه قوى الأمر الواقع كما يفعل أبناء السويداء اليوم بكل شجاعة ورجولة ومسؤولية وطنية.
يدرك الشيخ إبراهيم أنه يعيش في الزمن الضائع، وأن الموت كان بانتظاره في أكثر من موقف، ذلك أن سلطات الأمر الواقع لا تريد صوتاً عالياً فوق سقف ما تقرره أو توجه به، فقد نجا ابن الرابعة والثلاثين عاماً قبل ثلاثة أعوام من اغتيال مؤكد، واغتيل يومها ابن عمه (مطشر الهفل)، ويعلم الرجل من هو القاتل، ومن هو المشجع ومن هو المستفيد، كما صرح في مجلسه غير مرة، وأن قسد غضت النظر عمن اغتال ابن عمه وحاول اغتياله هو شخصياً!