أزمة الحزب الديمقراطي

2024.05.14 | 05:48 دمشق

جو بايدن
+A
حجم الخط
-A

يعيش الحزب الديمقراطي الأميركي أزمة هوية حقيقية، فهو على الصعيد الانتخابي العام في الولايات المتحدة الأميركية، في مواجهة مصيرية مع قيادة استثنائية بالمعنى الحقيقي للكلمة في الحزب الجمهوري، الذي اختار، وللمرة الثانية على التوالي، اليمين المتشدد لقيادة المواجهة الانتخابية متمثلاً بدونالد ترامب، دون أن يتورع الأخير عن اتهام الحزب الديمقراطي بالكامل بتهمة أميركية كانت على الدوام مثار تشكيك وتخوين، ألا وهي تلك التهم المتعلقة بالانتماء إلى اليسار الذي يرغب "بتقويض التجربة الرأسمالية الأميركية".

بالطبع هذه الاتهامات عارية عن الصحة، فالحزب الديمقراطي ذاته يعيش صراعات حامية الوطيس بين أجنحته، حيث فشل بيرني ساندرز في غير مَرّة في الحصول على الفوز بالترشيح للانتخابات العامة، التي خسرها مرتين، عام 2016 لصالح هيلاري كلينتون، وعام 2020 لصالح جو بايدن.

كان من المتوقع، على كل حال، أن تكون انتخابات 2020، الأكثر جدلية على الإطلاق، في سياق الصيرورة الوجودية الأميركية، لولا رفض الوسط الديمقراطي، تلك المواجهة المفترضة بين أقصى اليسار الأميركي (ساندرز) وأقصى اليمين الأميركي (ترمب)، لِما كان من الممكن أن يتمخض عن تلك المواجهة من تحديدٍ لِمعالم المشهد السياسي الأميركي، ولِحرص الدولة العميقة على عدم تعميق الهوّة بين الأطراف السياسية في الولايات المتحدة الأميركية، فتم ترشيح نائب الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما (جو بايدن) ليكون في مواجهة الشعبوي دونالد ترامب.

لكن صراع أجنحة الحزب الديمقراطي ليس وليد ظاهرة بيرني ساندرز الذي حصل في انتخابات 2016 على 13 مليون صوت، وحل ثالثاً، في أعلى نسبة تصويت تاريخية لليسار الأميركي عبر التاريخ، فالتيارات اليسارية، أو الاشتراكية الأميركية، تخوض منذ مطالع القرن العشرين صدامات ومعارك سياسية حقيقية بدأت مع تأسيس عدد من المهاجرين الأوروبيين في عام 1901، الحزب الاشتراكي الأميركي، وفي عشرينيات القرن نفسه، اُعتِقل رئيس الحزب الاشتراكي يوجين دبس، عدة مرات منم جراء رفضه اشتراك الولايات المتحدة بالحرب العالمية الأولى، ولكن هذا لم يمنعه من الترشح للانتخابات العامة عدة مرات، فشل فيها جميعاً بالطبع.

أدت تلك المظاهرات التي قادها دبس، إلى نشوء قمع حكومي رسمي للاشتراكيين من جراء نهوض الثورة البلشفية في روسيا، وإحرازها نجاحات عسكرية في مقدمتها توليها السلطة في موسكو، حيث خشيت السلطات الأميركية من امتداد الموجة البلشفية إلى الولايات المتحدة، التي كانت تعيش على صدى الحياة السياسية الأوروبية حينها. سميت تلك الفترة بـ"الخوف الأحمر الأول". بعد وفاة دبس عام 1926، ظهرت شخصية نورمان توماس القيادية الاشتراكية المتميزة التي قادت الحزب في الانتخابات العامة الأميركية. توماس أدرك أن طبيعة الحياة السياسية الأميركية الليبرالية الانفتاحية لا تقبل شعارات إيديولوجية مثل تلك التي تُسمع في موسكو، فعارض سياسات ستالين بشدة، وتمسك بالحريات العامة والسيادة القومية الأميركية على العالم. لكن، ورغم كل هذا التحوّل في برنامجه، وتركيزه على الشأن الداخلي الأميركي، إلا أن "الخوف الأحمر الثاني" خمسينيات القرن الماضي كان له بالمرصاد، فإذا به يقف وحيدًا في قفص اتهام محاكم السيناتور جوزيف مكارثي الذي شن حملة مشابهة لمحاكم التفتيش ضد الشيوعيين والبلاشفة واليساريين والاشتراكيين على حد سواء، تحت شعار عدم السماح لهم بتشكيل طابور خامس داخل البلاد.

فيما بعد، وفي سياق حركة الحقوق المدنية ورفض التمييز العنصري، شهدت الحياة السياسية الأميركية قبولاً للأفكار الاشتراكية جعلت الحزب الديمقراطي، أو بعض أجنحته، تتبنى الفكر الاشتراكي، أو تسمح بدخوله إلى دوائره الداخلية لكسب أصوات الأقليات والمهاجرين والعرب وما إلى ذلك.

في مرحلة لاحقة، ومع التركيز على فك الارتباط عن الفكر الشيوعي التقليدي، ومحاربة الفقر والعنصرية والتمييز الطبقي، والدعوة إلى السلام العالمي، وبدء الاهتمام بالبيئة، ومواجهة أباطرة حقول النفط والسلاح، نجحت تلك الحركات لأوّل مرّة في تاريخ السياسة الأميركية، بإيصال رئيس ديمقراطي بميول اشتراكية إلى البيت الأبيض هو جون فيتزجيرالد كينيدي، وهي المرحلة التي انتهت بشكل دراميتيكيّ، وباغتياليْن مروّعيْن؛ اغتيال الرئيس كينيدي نفسه نهايات عام 1963، ثم في مطالع عام 1968، جرى اغتيال الناشط الأسود مارتن لوثر كينغ رائد حركة الحقوق المدنية في أميركا، وداعية اللاعنف، والخطيب المفوّه ضد التمييز العنصري.

مع اقتراب موعد الانتخابات العامة الأميركية، تتصاعد حمّى المواجهة بين اليمين الأميركي المحمّل بالاتهامات الجاهزة للحزب الديمقراطي بأنه صاحب ميول شيوعية انهزامية، تهدف إلى تفتيت الهيمنة الأميركية على العالم، بينما يغوص بايدن في حمأة مواجهته مع المظاهرات الطلابية التي تنتشر في عموم الجامعات الأميركية وتفرض عليه موقفاً صارماً تجاه مبادئ حرية التعبير وحق التظاهر ودعم حق الشعوب في تقرير مصيرها ومواجهة الاحتلال، وهو مأزق لا يحسد عليه الرجل العجوز، الذي يناور في مساحة ضيقة جداً قبيل الانتخابات التي يتربصه بها دونالد ترامب.

إن مأزق جو بايدن يتحرّك في مساحتيْن صعبتيْن؛ فهو إن قبل السياسات الاشتراكية التي تمنح سلطته صوتاً عالياً في شؤون الإدارة الداخلية للبلاد متجسّدة في قوانين الضمان الصحي والهجرة والحريات والسياسة الخارجية والضرائب، فهو سيواجه أزمة هائلة في تطبيقها في السياسة الدولية وخصوصاً في قضية العدوان على غزة، التي تتشابك فيها مصالح اللوبيات الإسرائيلية مع مصالح أميركا في الشرق الأوسط، دون قدرته على تجاهل المجازر والانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان في القطاع، وإنْ قَمَعَ تلك التحركات الطلابية بشكل أساسيّ، فإن ذلك القمع سيظهر بوصفه خيانة للمبادئ التي يدّعي الحزب الديمقراطيّ الدفاع عنها والذود عن حياضها.

كل هذا لا بد أن يصب بشكل أو بآخر في الرصيد الانتخابي للرئيس ترامب، حيث ليس لأحد أن يدري كيفية رده على تظاهرات الجامعات وهل سيمنعها بالعنف مثلاً؟ أو كيف كانت ستكون ردّة فعله على حرب غزة؟ وهل سيحمل العصا من الوسط مع نتنياهو مثل بايدن أم سيدعمه حتى النهاية؟

في جميع الأحوال يلوح ترامب بورقة الخوف الأحمر الثالثة، بل إنه يدعو جهاراً لمواجهة اليسار الأميركي الذي وحسب قوله "يود إفساد الحرية الأميركية". ومع تصاعد الأصوات في الحزب الديمقراطي الداعية لتنحية بايدن إثر أدائه الصحيّ السيئ والظاهر للعيان، يتم حالياً طرح بدائل في حال تعرض الرئيس بايدن لأي طارئ صحي، وبالتحديد يتم التركيز على منصب نائب الرئيس الذي ستنتقل إليه السلطات في حال تعرض الرئيس لعارض صحي. وعملية تسمية النائب عادة هي عملية تتم في دوائر الحزب الداخلية التي تخضع لجميع التيارات السياسية في الحزب الديمقراطي، هنا بالتحديد سيتم الاستعانة ببيرني ساندرز كصوتٍ تقدميٍّ اشتراكيٍّ سيكون لإقحامه كثير من المعنى في خضم الاضطرابات السياسية التي تعصف بالولايات المتحدة والعالم، دون أن ننسى الفوضى التي حصلت في غير مرّة إثر الانتخابات العامة بين بوش وآل غور عام 2000، وبين بايدن وترامب عام 2020 واقتحام الكونغرس والفوضى التي أعقبت ذلك.