لا تختلف دار الأسد للثقافة والفنون عن مقار تنظيم داعش، فخلف كل منهما يتوارى مجرم، أحدهما ببدلة رسمية وربطة عنق ويغطي إجرامه بفعاليات ثقافية وفنية، والآخر بلحية وزي أفغاني يغطي جرائمه بثوب الدين.
وبين النظام والتنظيم، ضاع شباب وشابات سوريا، قُتلوا أو اعتقلوا أو شُردوا في طريق بحثهم عن الحرية والكرامة.
من دار الأوبرا السورية في ساحة الأمويين بدمشق، تنطلق أحداث رواية أبيض قانٍ للكاتب الشاب غيث حمور، والصادرة مؤخراً عن دار نون4، ولأنّ دار الأوبرا في سوريا تحمل اسماً آخر هو "دار الأسد"، فلا بد للتشوه أن يكون عنواناً لثقافة البلد، ولا بد أن يكون المتن جسداً مقطع الأوصال مبعثر الجغرافيا مطموس الهوية، جسداً أصبح جثة مدماة حوّلها الطامعون بالسلطة إلى وليمة مفتوحة لوحوش الأرض من شرقها إلى غربها.
يلخص حمور في روايته مرحلة تاريخية هي بالضبط عمر الثورة السورية، عن طريق سرد قصة إحدى الشابات السوريات التي آثرت أن تنحاز إلى الحق، فتحولت إلى ضحية للوحشين اللذين عملا معاً على تمزيق نسيج الوطن..
بداية يمكن تصنيف الرواية على أنها من جنس الرواية التوثيقية الافتراضية، أي أنها قائمة على الوثيقة المتعارف عليها من خلال الحقائق التي يعرفها السوريون، والحكايات الكثيرة والمتكررة التي رواها الناجون عن سجون النظام ومعتقلاته، والناجون من قبضة تنظيم داعش، حيث لا يعتمد حمور على وثائق بعينها تعود لشخصية محددة، بل على الروايات الثابتة والتي تكررت مع معظم من انتموا إلى الثورة وتعرضوا للانتهاكات من قبل النظام والتنظيم.
اختار حمور بطولة نسائية لروايته، حيث وظف هذا العنصر النسائي لفضح مدى وحشية النظام والتنظيم في التعامل مع السوريين، وركز على فعل الاغتصاب، وهو أكثر الانتهاكات إيلاماً رغم كل ما مارسه النظام والتنظيم من إجرام وتوحش.
اعتمدت الرواية إذاً على الوثيقة غير الشخصية وعلى توصيف الوقائع العامة كخط أساسي للطرح، ولكن شخصية الراوي المتقصي، الراوي المدون المسكون بالتفاصيل، لا تفارقنا في أثناء قراءة العمل في بعده الواقعي والتوثيقي، فضلاً عن خط غير مباشر يعتمد على الرمز ويظهر شخصية الأديب، رغم أن الكاتب لم يكن مشغولا بالجانب الأدبي الصرف قدر انشغاله بالحدث.
بطلة الرواية "سناء"، شابة جامعية لا تربطها أي صلة بالسياسة، وهي عيّنة مختارة من شباب سوريا الذين شاركوا في الثورة أو انحازوا لها دون أي طموح سياسي، وربما دون معرفة سياسية معمقة، فهم انحازوا إلى الضحية ضد الجلاد، إلى الحرية ضد القمع، إلى الوطن ضد من يدعي ملكية الوطن واحتكاره ووراثته وكأنه حق مكتسب.
اختيار الكاتب لشخصية البطلة سناء، الفتاة النقية الطموحة المسكونة بالأدب بعيداً عن السياسة، كان المرتكز الأول الذي يعطي للرواية زخماً إنسانياً وأخلاقياً ووطنياً، فالانحياز للحق هو الفطرة الإنسانية التي ترفض الجريمة، والتي لم تتأثر بكل التشوهات التي طرأت على المشهد السوري في سنوات الثورة، وهو بالضبط ما فعلته سناء بطلة الرواية وما فعله كل السوريين الذين عاقبهم النظام بالاعتقال والاغتصاب والقتل والتهجير ليس بسبب موقف سياسي وإنما بسبب انحيازهم للحقيقة، وهو ما سيركز عليه حمور في روايته حتى النهاية.
سناء، الفتاة الجامعية الحريصة على حضور العروض المسرحية وقراءة الأدب والحالمة بـ(غودو) كمخلص ثقافي ومعرفي وإنساني، سناء برمزيتها المطلقة كتعبير عن شباب سوريا، تتحول إلى معتقلة ومغتصبة من قبل قوات النظام أولاً ومن ثم التنظيم، هي مجرد عينة من مئات آلاف الشباب السوري، باستثناء أنها ممن حالفهم الحظ لتنجو من الموت بأعجوبة، هذا الحظ الذي لم يحالف كثيرين ممن عانوا ذات معاناتها ولكنهم دفنوا في أماكن مجهولة بعد أن تم قتلهم في مسالخ النظام أو التنظيم.
دار الأوبرا التي تبدأ منها أحداث الرواية كمكان ذي أبعاد ثقافية وحضارية، ستتحول إلى أقبية وسجون ومعتقلات وزنازين تحت الأرض -باعتبارها دار الأسد-، دار الأوبرا هي إذن الغلاف الخارجي لصورة النظام، ولكن تحت الأرض تبدو صورة النظام الحقيقية
يلعب المكان أحد أدوار البطولة في رؤية الكاتب الترميزية، فدار الأوبرا التي تبدأ منها أحداث الرواية كمكان ذي أبعاد ثقافية وحضارية، ستتحول إلى أقبية وسجون ومعتقلات وزنازين تحت الأرض -باعتبارها دار الأسد-، دار الأوبرا هي إذن الغلاف الخارجي لصورة النظام، ولكن تحت الأرض تبدو صورة النظام الحقيقية، صورة المكان التابع للنظام بكل عنفه وتوحشه، سيجد معادله الموضوعي في مقار التنظيم، وسيجعلنا نشعر أننا نتنقل في مكان واحد، فلا اختلاف في الممارسات، ولا في طبيعة القائمين على المكان، ولا في ثقافة العنف والتوحش في التعامل مع الضحايا.
فضلاً عن المكان، يبرز دور الأزياء والألوان والإضاءة حيث ستلعب تلك العناصر دوراً أساسياً في خطاب العمل، فالكاتب يركز على مفهوم النور والعتمة من خلال توغله في العالم الخفي للنظام وحفره في بنيته العميقة وانتقالاته بالمشهد عن طريق الإضاءة ودرجتها وكثافتها وصولاً إلى أعماق البنية الفكرية للنظام والتي لا نرى فيها سوى الظلام، وهو الظلام المتوائم تماماً مع ظلامية التنظيم، وتشكل الإضاءة مركزاً محورياً في الكشف عن المصائر والمآلات وعن الحقائق التي حاول النظام تغييبها في مقار التنظيم.
يمكن اختصار الإضاءة المعتمدة في الرواية بالعتمة التي خيمت على سوريا، والتي ستتنقل بنا مع الأحداث وتفرض هيمنتها على الواقع الجديد الذي فرضه النظام بالقوة، وهي عتمة مادية ومعنوية، فغياب الكهرباء ليس المشكلة الأساسية لأنه غياب للإنارة فقط، أما غياب الضوء فهو بمنزلة غياب الأمل في النفق الذي أدخل النظام البلاد فيه، وسيطرة العتمة هي الحقيقية الوحيدة التي ركز عليها الكاتب وحمل مسؤوليتها للمتسبب الأساسي الذي لا يزال يضع كامل ثقله لمحاربة الضوء.
أما الزي فهو ليس مجرد إكسسوار وإنما غرض موظف، وكذلك اللون له أبعاده التي تلعب متغيراتها وتناقضاتها دوراً مهماً في تركيب العلاقات الجديدة في الحدث السوري وفي الصورة الكلية، الزي هو ترميز آخر متقاطع مع رمزية الضوء واللون، فالثوب الأبيض الذي ترتديه سناء في بداية الحدث، هو سوريا النظيفة، سوريا النقية التي أصر النظام والتنظيم على تشويهها وتلويثها ببقع الدم، والتي أرادها غير قابلة للإزالة، أما عمليات الاغتصاب التي تعرضت لها سناء وغيرها من شابات سوريا، فهي اغتصاب للوطن ولحلمه، ليتحول الثوب الأبيض إلى زي غريب عن التقاليد والذهنية السورية، ثوب مختلف تماماً فرضه داعش لتشويه صورة البديل ومساعدة الأسد في البقاء بدلالة ذلك البديل المفترض، ثوب يساهم في تعزيز الجريمة الكبرى للنظام الذي استجلب التنظيم والتي لا تتوقف عند حدود الجريمة الجنائية والسياسية وتدمير البلد، بل تتسع لتشمل جريمة تدمير مستقبل وطن بكامله، ولسوف تبدو الضدية في الزي واللون والضوء من أكثر النقاط التي تستوقفنا في رصد تغير المشهد السوري.
إن سوريا نفسها هي ذلك الثوب الأبيض الحالم المقبل على الحياة والذي حوّله النظام إلى حبل مشنقة إن نجوت منه سيسلمك إلى التنظيم وهو النسخة اللونية المغايرة شكلاً المتطابقة مضموناً والذي يوحد بين النظام والتنظيم ككيان واحد.
أحداث رواية "أبيض قانٍ" وقصة سناء لا تبدو جديدة، ولربما يشعر القارئ أنه يعرف أحداث الرواية ويمكنه أن يتوقع نهايتها أيضاً، فهي تشابه الكثير من قصص الناجيات ورواياتهم الشفاهية، ولكن تخصيص عمل أدبي لتوثيق الرواية المتعارف عليها والتي ينكرها النظام، يبدو أمراً مهماً للمستقبل إذا ما تسنى للنظام بوصفه الأقوى أن يفرض روايته السياسية، فعندها لن يستطيع إعدام الإنجازات الأدبية التي تمثل شهادة غير سياسية على حدث سياسي.
كل من يقرأ الرواية سيكتشف الأصل والمنشأ لتنظيم داعش ويعيد ضبط المصنع ليخلص إلى نتيجة طالما سعى السوريون لإثباتها وهي أن النظام هو أصل التنظيم ومنشأه، وأن مسؤولية ما حدث في سوريا تقع على عاتق طرف واحد هو النظام، أما كل الأطراف الأخرى فهي ناتج صناعته التي استجلبها من أصقاع الأرض ليعمل من خلالها على تفريق دم السوريين ودم سوريا نفسها بين القبائل..