بالرغم من الاتفاق مع معظم ما جاء في مقال الصديق والزميل حسام جزماتي (العلويون السوريون: من عيد الرابع إلى عيد الجلاء)، إلا أنّ تناول مسائل كالتغيرات التي أصابت واحداً من أعياد العلويين التراثية أو حتى موقفهم الجمعي، إن صحّ التعبير، من عيد الجلاء، يحتمل تأويلات تاريخية مختلفة ترتبط بشكلٍ أو بآخر بتطور الوعي السياسي عند هذه الجماعة.
بداية، لا يخفى أنّ التفاعل الشعبي مع عيد الجلاء، في عموم سوريا، لا يتناسب مع قيمة اليوم الوطني الرسمي للبلاد، ولا يرقى إلى حجم التعبئة والطقوس التي كان يفرضها نظام الأسد في ما يتعلق بالمناسبات المرتبطة به، وعلى رأسها ذكرى حرب تشرين وذكرى انقلاب حافظ الأسد. لكن انخفاض عتبة الاهتمام بالجلاء عند العلويين له أسباب تختلف عن بقية المناطق والجماعات. فالجلاء جاء ليعلن هزيمة العمل السياسي العلوي وتكريساً لما يمكن تسميته بالإحباط العلوي. ذاك أنّ ما تلاه مباشرة كان بداية مرحلة مواجهة وتهميش الأقليات بالعموم، إذ تشكلت حكومة الاستقلال بعد عشرة أيام من الجلاء في 26 نيسان/أبريل برئاسة سعد الله الجابري، والتي لم تشأ أن تتمثّل فيها الأقليات. ولم يكن خافياً تصميم الجابري على الحدّ من نفوذهم وعلى رأسهم الدروز، فكانت سياسته في مواجهة العلويين حينها رسالة واضحة للدروز، وبلغت تلك السياسة ذروتها عند العلويين بإعدام زعيمهم الأبرز، سلمان المرشد، مع كلّ ما رافق وتلا عملية الإعدام من طقوس انتصارية وانتقامية وتعبئة سياسية واجتماعية.
بكلمات أخرى، يمكن القول بأنّ فصل الربيع الأوّل الذي شهدته سوريا كان مدخلاً إلى صيف لاهب شهد إعدام المرشد، وشتاء قاس باشرت فيه حكومة الاستقلال استهدافها للعلويين، مستعينة بأحد أبرز شخصياتها الصدامية المتمثلة بعادل العظمة. بيد أنّ الأمر لا يقتصر على الأفعال والسياسات التي تلت ربيع الاستقلال، فعلى الصعيد الرمزي، وبالنسبة للعلويين، جاء هذا الربيع ليعلن ولادة دولة رافضة لأي مشاركة لهم فيها، على أنّ المرارة في هذا كلّه، هو التنكّر لدور العلويين أنفسهم ولمساهمتهم في خلق الكيان السوري، ذاك أنّ دعاة الوحدة السورية العلويين قد ناضلوا قبل سنوات لدمج إقليمهم في الكيان السوري العتيد، وهنا تبلغ المرارة
"في ما خصّ "عيد الرابع" التراثي عند العلويين، فالأمر يرتبط بالفترة التي شهدت التبدّل في طقوسه، أو بالأحرى مظاهره الاحتفالية. فإن صحّ أن ذلك قد بدأ مع وصول الأسد الأب إلى السلطة"
شدّتها وتتبدّى خيبة العلويين من الربيع، إن صحّ التعبير.
أمّا في ما خصّ "عيد الرابع" التراثي عند العلويين، فالأمر يرتبط بالفترة التي شهدت التبدّل في طقوسه، أو بالأحرى مظاهره الاحتفالية. فإن صحّ أن ذلك قد بدأ مع وصول الأسد الأب إلى السلطة، جاز لنا الادّعاء بدور رئيسيّ للأسد في ذلك قبل كلّ شيء. ذاك أنّ حافظ الأسد، وكما بات معروفاً، كان قد واجه في بداية حكمه مشكلة أساسيّة، لا تتعلّق في شرعيّته باعتباره قائد نظام انقلابي، بحكم أنّ البلاد كانت قد اعتادت الأمر منذ 1949، بل في شرعيّته كـ"مسلم" حاكم لسوريا. ولم يكن خافياً أنّ الأسد قد سعى، عبر أكثر من مبادرة أو موقف، إلى التأكيد على إسلامه، لا كفرد مستقل، بل كفرد منتمٍ إلى جماعة طالما تعرّضت للتشكيك في إسلامها. فعدا عن تقرّبه من البرجوازية السنيّة، خاصة الدمشقية منها، لم يكن بلا دلالة تعميم منهج مادة التربية الدينية، السنيّة المنشأ، في مدارس العلويين. وانطلاقاً من ذلك، يمكن الافتراض بوجود رغبة شخصية من الأسد في الاستغناء عن طقوس الفرح والبهجة المرتبطة بعيد الرابع، رغبة منه ربما في عدم إثارة الرأي العام السنّي العريض، وتفويت الفرصة على معارضيه للنيل من جماعته والتشكيك بها، ما يعني التشكيك به بحكم الأمر.
وهذا كلّه لا ينفي ما سبق وتناوله جزماتي في مقاله، خاصة فيما يتعلق بتغير ظروف العمل والإنتاج في منطقة العلويين، إذ ارتبط وصول الأسد مع اتساع ظاهرة هجرة الأرض والعمل الزراعي بين العلويين، كما ارتبط، على الصعيد الرمزي، ببروز صورتين أو نموذجين، الأولى للعلوي الشاب المنتقل للعيش في العاصمة والمدن الكبيرة طلباً للعلم أو للوظيفة الرسمية، وللضابط العلوي العامل في الجيش. الأمر الذي يمكن اعتباره، على الصعيد الرمزي، بمثابة تعويض مجزٍ عن بهجة ريفية بعيد تراثي، خاصة وأنّ هذا التعويض لم يكن خالياً من مشاعر انتصارية تأخّرت منذ الاستقلال.
كائناً ما كان الأمر، وبالنظر إلى أحداث الثورة السورية وانعكاساتها على الجماعات السورية المختلفة، لا يمكن إنكار حقيقة أنّ العلويين قد حُرموا بهجة الربيع مرّتين، الأولى عند ولادة الكيان السوري، والثانية لحظة انطلاق الثورة في 2011. وهذا ما يفرض علينا التمني بحلول ربيع علويّ حقيقي، بالمعنى السياسي بالطبع، والذي لا يمكن الحديث عنه قبل انعتاق هذه الجماعة من وجود ومن ثمّ إرث عائلة الأسد، ولا يكتمل إلا بمبادرة السوريين الآخرين للانفتاح على العلويين وإدراكهم لما لهم حقيقة وما عليهم.