في شهر أيار من العام 2013، غادرنا الناقد يوسف سامي اليوسف إلى بارئه الأعلى، تاركاً خلفه بضعة عشر كتاباً في النقد والأدب، وغير قليل من الوجع والتحسّر في قلوب محبيه وقرّائه، بل لعلّ أهم ما تركه المرحوم من مآثر هو تلك السمة الإنسانية الراقية التي تجسّدت في صدقه وإخلاصه في مسعاه ومبتغاه، وكرم يده وروحه معاً، وكذلك في تواضعه الجمّ المنبعث من اعتداد وثقة كبيرة بالنفس، فضلاً عن ثقافة موسوعية قلّ أن تتأتّى لناقد في عصرنا الراهن.
ولكن على الرغم مما حازه المرحوم اليوسف من مزايا، فقد عاش طيلة فترة عطائه الإبداعي بعيداً عن الصخب الإعلامي، وفي انزياحٍ شبه تام عن تصدّر المحافل الأدبية والثقافية، وفي هجران مطلق لتقلّد المناصب في المؤسسات الثقافية، سواء منها الرسمية وغير الرسمية، ولم يكُ كذلك – فيما أعتقد – إلّا لأنه كان يُؤثِر اللباب في كل جزئية من فكره وسلوكه، بل هو تماماً كالمتصوّف الذي يرى على الدوام أن عظمة الكون لا تتبدّى إلّا بمخبوءاته النفيسة التي لا يدركها سوى أصحاب البصيرة النافذة، والقلوب الظامئة المتلهّفة التي لا ترتاح إلّا بمعانقة ما هو يافع ونفيس.
هذا الانزواء الذاتي عماّ هو برّاني وطارئ، و الذي مارسه اليوسف عن وعي وإرادة حقيقيين، قد تعزّز بمزاج اتّسم بالحدّة والصرامة، وبعدٍ عن المحاباة، إذ بقدر ما كان اليوسف رفيع الخلق، طيّب المعشر، إلّا أنه لم يكن يجامل أحداً قطّ، وخاصة في شؤون الفكر والنقد والأدب، فكثرٌ هم أصدقاؤه من الشعراء والكتّاب الذين كانوا يتفاجؤون بآرائه الصادمة بخصوص نتاجهم، بل لعلّ بعضاً منهم لم يستطع الإدراك أن التجانس الاجتماعي والإنساني لا يعني بالضرورة تجانساً مماثلاً في الأدب أو الفكر أو الرأي النقدي، ما أدّى إلى ابتعاد الكثيرين عنه، بل منهم من عاداه، بل ثمة من النقاد من سعى إلى تجاهله، لأسباب غير بعيدة عن الحسد أحياناً، وضيق الأفق أحياناً أخرى. ولئن كان لهذا السلوك الأخلاقي تداعيات سلبية على مشاعره الشخصية، إلّا أنه لم يطل قناعاته الفكرية والفلسفية الأدبية بشيء.
هذا الانزواء الذاتي عماّ هو برّاني وطارئ، و الذي مارسه اليوسف عن وعي وإرادة حقيقيين، قد تعزّز بمزاج اتّسم بالحدّة والصرامة
ثمة أمران لا يمكن نكرانهما لدى المرحوم اليوسف، تركا أثراً شديد الوضوح على مجمل نتاجه الأدبي، يتبدّى الأول بمثاليته الطاغية ( كان يطلق عليه نفرٌ من قرائه وأصحابه لقب: هيغل العرب)، النابعة من حسّه المتعالي ، بل وازدرائه لكل ما هو مادّي ونفعي، ونزوعه الصوفي إلى درجة التماهي مع الفلسفة الصوفية، ليس في إشراقاتها الروحية فحسب، بل في تجلياتها الفكرية أيضاً، ربما ليقينه بحاجة الناقد الأدبي إلى عمق الوجدان الذي يمكّنه من استبطان لطائف النصوص وكنهها الجمالي المستور، وربما أيضاً، وهو الأرجح، أن حساسيته المفرطة والتي هي إحدى دعائم مثاليته، إنما تعود إلى جبلّته النفسية والخُلقية من جهة، وكذلك إلى ثقافته وسيرورة حياته الاجتماعية من جهة أخرى.
أمّا الأمر الثاني فيتمثّل بسخطه الشديد والدائم على كل ذي سطوة ونفوذ في هذا العالم، وكأنك تحسّ وأنت تقرأ أيّاً من نصوصه بأنه ناقم على الحياة بما فيها، ولعل مردّ ذلك بسهولة، إلى سيرورة حياته، ومعايشته لجميع مفاصل قضيته الفلسطينية، بدءاً من نزوحه من قريته ( لوبيا) عام 1948، مروراً بمكوثه حقبة طويلة من الزمن في مخيم اليرموك بدمشق، وانتهاءً بمخيمات الشمال اللبناني حيث توفي، كل هذا الترحال مع ما لازمه من شظف العيش وقسوة الحياة، ولعلّ الأهمّ من ذلك كلّه، هو أن المرحوم اليوسف هو أحد المثقفين الذي لم تفارق قضية فلسطين نتاجه أبداً، فهي حاضرة على الدوام، ليس بتجلياتها السياسية المباشرة فحسب، بل بأبعادها الإنسانية والكونية أيضاً، ولعل هذا ما جعله مسكوناً على الدوام بحنق شديد حيال كلّ من ساهم بتعزيز مأساة شعبه المنكوب.
ولئن يتعذّر الحديث – في هذه المقالة الوجيزة – باستفاضة عن التجربة النقدية للأستاذ يوسف، إلّا أنه يمكن الإشارة إلى سمات ثلاث، كانت علائم دالّة على غنى المُنجَز النقدي لديه:
أولاها: المرونة المنهجية في مقاربة النصوص الإبداعية، لاعتقادة بوجود علاقة تكاملية بين ( النظرية والواقع)، فالنظرية ليست قالباً خشبياً تُحشَر فيه النصوص، وليست تغريداً في الفضاء الطلق بعيداً عن معطيات الحياة، وحريٌّ بالواقع أن يرفضها إنْ تحولت إلى ضرب من التهويم، وكذلك الواقع، مهما اكتنز به من نفائس، فإنه بحاجة إلى أدوات معرفية وآليات منهجية لاستنباط مخبوءاته الجمالية، بل إن المعطى الجمالي غالباً ما يكون بحاجة إلى تأطير نظري يسهم في بلورته وتحديد ملامحه، ولعل هذا ما يجعل القارئ يدرك قدرة الناقد يوسف سامي اليوسف على مقاربة نصوصه المدروسة من خلال مناهج نقدية متنوعة، وكذلك من خلال استلهام مناهل معرفية غزيرة، دون تعصّب أو انحياز فكري سابق، سوى لما يراه أكثر نجاعةً في الإحاطة بالظاهرة المدروسة، وملامسة بواعثها الإبداعية والجمالية، وعلى سبيل المثال، ففي دراسته لنشوء الظاهرة العذرية في الشعر العربي، لا يرى اليوسف بأساً من مقاربة هذه الظاهرة مستلهماً ومستهدياً بأكثر من مدرسة فكرية وأكثر من منهج نقدي، ذلك أن نشوء العذرية في بداية القرن الهجري الأول، هي ذات صلة بالملكية الخاصة، وتطور وسائل الإنتاج ( صراع الطبقات)، وهي كذلك ذات صلة بـ (حالة التضاد بين تعاظم الروح القومي الذي يمثل نشوء الإمبراطورية العربية وبين نزعة الأفراد في الحصول على نزواتهم ومباهجهم الذاتية)، وبالتالي فإن العذرية – وفقاً لليوسف – هي تجسيد لخسارة الفرد توافقه مع غايات التاريخ (قوانين تطور الفكر عند هيغل)، ولا يستبعد اليوسف – أيضاً - أن تكون الظاهرة العذرية في الشعر هي صرخة احتجاج ضدّ تنكّر الدولة لمصالح الفرد. ( الغزل العذري ص 6 – 7 ).
ثانيها : القدرة على اختراق النصوص ببراعة وفرادة، بغيةَ ملامسة بواطنها، والقبض على الفحوى الداخلي للعمل الأدبي، وهذه المزيّة لن تتحقق دون حيازة الناقد ليس لزاد ثقافي وفير فحسب، بل لطاقة إبداعية كبيرة أيضاً، ذلك ان النقد – وفقاً لليوسف – ( اختراق، وممارسة لصورة الاختراق، وأعظم الاختراقات ما أُجريت في أصلد الأشياء وأمنعها وأقدرها على التأبي، واللاامتثال). ما الشعر العظيم ص 115 .
ولعل هذه السمة في مقاربة النصوص قد منحت المُنجَز النقدي ليوسف سامي اليوسف كثيراً من التوازن بين النقد النظري، والنقد التطبيقي، فإلى جانب بعضٍ من كتبه التي يطغى عليها جانب التنظير، ككتاب (القيمة والمعيار، والخيال والحرية)، نجد له كتباً أخرى تضمنّنت مقاربات عملية ،ومقارنات هي غاية في الروعة بين نصوص من ثقافات مختلفة، كمقارنته بين قصيدة (إلى هيلين للشاعر إدغار آلن بو) وقصيدة (عشيات الحمى للشاعر الصمة القشيري)، وكذلك مقارنته الرائعة بين نص من الكتاب المقدس (نشيد الإنشاد) وقصيدة (خالقة، للشاعر بدوي الجبل)، إضافة إلى مقارنات عديدة بين نصوص صوفية لابن عربي وابن الفارض، وبين قصائد أخرى للشاعر الفرنسي رامبو.
ثالثتها: لم تكن الجهود النقدية ليوسف سامي اليوسف منقطعة الجذور عن التراث النقدي العربي، بل يمكن التأكيد على أن اليوسف يُعدّ في طليعة النقاد الذي استوعبوا التراث النقدي بدرجة عالية من الموضوعية، إذ غالباً ما نراه يقف عند خلاصات نقدية لعبد القاهر الجرجاني والقاضي الجرجاني والجاحظ وابن طباطبا وابن جني، ويحاول البناء عليها أو تطويرها، ومحاولاً في الوقت ذاته، ربْطها ومقارنتها بالجهود النقدية العالمية الجديدة، يسعفه في ذلك زاد ثقافي كبير، وبراعة فكرية ومنهجية قادرة على الإحاطة والتحليل الدقيق، فضلاً عن امتلاكه حسّا متوهّجاً وذائقة راقية تمنح نصوصه النقدية متعة جمالية كالتي نجدها في النصوص الإبداعية.
لم يخف اليوسف نزوعه الرامي إلى إنتاج نظرية في الأدب، ولعل ما تركه من إرث نقدي يكاد يقترب مما سعى إليه، إلّا أن نظريته النقدية جاءت موسومةً بإحساسه وأخلاقه ومزاجه، أكثر من كونها مُنتَجاً لفكره وعقله. قد نختلف كثيراً أو قليلاً مع مواقفه الأدبية والفكرية، ولكننا في الوقت ذاته، لا نملك إلّا أن نبدي احتراماً وتقديراً عاليين لقامة إبداعية ونقدية كبيرة.