يقول صديقي: هذا هو الرد الذي تلقيته صباح اليوم، حين طرقت باب قلب إحدى الصديقات، متسائلاً عن غيابها الطويل، وقد أخذتها الحياة بعيداً بعيداً، هناك حيث لا أحد، سوى الوحشة والتحدي وعجلة الحياة وطواحين الهواء الهولندية.
لم ترد تلك الصديقة على ندائي بالحديث عن غيابها، غير أنها علقت على باب قلبها، أو بيتها هذه الكلمات:
يا طارق الباب رفقاً حين تطرقهُ
فإنه لم يعد في الدار أصحابُ
تفرقوا في دروبِ الأرض وانتثروا
كأنه لم يكن أنسٌ وأحبـــــــابُ
ارحم يديك فما في الدار من أحد
لا ترج رداً فأهل الود قد راحوا
ولترحم الدار ...لا توقظ مواجعها
للدور روحٌ .. كما للناس أرواحُ
في اللهجة التونسية تعبيراً عن الشوق يقولون: توحشتك، أي أنني أشعر بالوحشة إن غبت عن عيوني، انتقال من وصف الحالة إلى آثارها النفسية عليك، وفي السورية: اشتقت لك! إذ إننا لا نزال مشغولين بلحظة الشوق ولم نغادرها على أمل أن يطفأ الشوق بطريقة ما!
اشتقنا للأبواب التي تركناها هناك خلفنا، لصريرها، وسهولة كسرها حين ننسى المفتاح في الداخل، فالأبواب السورية كقلوبنا، سهلة الكسر، وليست كالأبواب في بلدان أخرى، التي يضعون لها أقفالاً كثيرة، كي يصعب فتحها كجزء من بحث العالم عن الأمان، الذي يزداد فقدانه طرداً مع التقدم التقني!
وفي تتمة لحديث صديقي مع صديقته التي تقرض الشعر، في لحظات وهمها، قالت له: أريد أن أفتتح محلاً لغسيل اللباس، كي أشعر بالأمان المالي، سأضع دواويني الشعرية هناك، لعل من يأتي ليغسل ثيابه يجد الوقت ليغسل روحه في زمن التكتوك، ويقرأ الشعر!
قال لها: ليتني لم أطرق بابك؟ ما هذه الأخبار؟ شعر وغسيل ملابس! إنه زمان غريب عجيب!
قالت له: ولادة بنت المستكفي خلدها التاريخ ببيتين من الشعر، وأنا لو كنت في زمان غير زمان الغسالات لصنعوا لي تماثيل، وعلقوا أبياتي الشعرية على حيطان أدمغتهم تعبيراً عن احتفالهم في الجمال.
وحين سألتها عن الأصحاب قالت: لم يعد في سوريا أصحاب، الأصحاب هاجروا أو انقطعت أخبارهم كشخص وصل إلى مطار دمشق فغاب دون "حس أو خبر" كأنه "ملح وذاب"!
ندمت على لحظة هيجتُ فيها الأشجان، كان الهدف يا صديقة أن أسألك عن أحوالك، بعد كل هذا الغياب، فقالت: ألملم شظايا الروح بين سلم الخيارات الخاطئة، التي ندخلها كحقوق وواجبات، ثم تتحول إلى ما غناه ياس خضر الذي رحلت روحه قبل عام من الآن: "ماي وتبدّى من ايدينا! صدفة رحنا وصدفة جينا والعمر كله صدف".
أتصل بصديق لم أره منذ سنوات، لا يبعد عني سوى كيلومترات دقيقة، أريد أن أستعيد زمان الزيارات دون خطط، أقول له سأزورك في نهاية الأسبوع، ونطبخ معاً ونتعلّل!
يوافق مرحباً وقبل الموعد بيوم: يرسل لي رسالة يقول فيها: ولترحم الدار لا توقظ مواجعها!
أفهم عليه: وأقول له: كن بخير يا صديقي لا بد، من لقاء وإن طال السفر!
عندي صديقة ترفض أن تفتح باب قلبها، وهي تردد: أنا المرأة الحديدية!
أهمس بأذنها: لم نخلق من حديد يا صديقة!
لتعبري، ولتمشي في الشوارع مع سماعاتك ولتسمعي أغنية "يا ساكن أفكاري لماجدة الرومي" غير أنها تعود إلى أغنية ملحم بركات "بدك مليون سنة"!
أردُّ عليها: لا أطمح أن أفهمك، من هو العاقل الذي يريد أن يفهم امرأة جميلة مثلك!
ليس المهم أن يفهم كل منا الآخر، المهم أن يحسَّ به! يكفي أن نحسّ ببعضنا، قد لا يكون لدينا القدرة على تقديم المساعدة لأهلنا في سوريا مرات كثيرة، المهم ألا نفقد الإحساس بوجعهم أو أن نتخلى عن آلامهم، إنْ حالفنا التوفيق في مسارات حياتنا، وهذا لا ينطبق على من هم في الداخل، بل على كل سوري حالفه الحظ، أو قام بمهام يحبها، أو هُيِّئت له ظروف ليكون كما يسعى، في حين زميل له أو صديق دراسة لم تتهيأ له ظروف أن يحقق أحلامه.
لعله من المهم أن نطرق بابه بين فترة وأخرى: وإن سأل من الطارق؟
يمكنك أن تقول له: يدٌ تبحث عمن يسلم عليها!
ليس الانكسار المرحلي نهاية العالم، يمكنك أيها السوري أن تغني مع أحمد القسيم في الصباح:
ارفع راسك فوق أنت سوري حر!
تلك الأغنية التي حورتها معظم الشعوب العربية لتعيد صياغتها بطريقتها ووفقاً لحاجات شعوبها النفسية والثورية والوجدانية. تلك قصة وجدانية سورية، علينا أن نرسخها ومثيلاتها ببرنامج تلفزيوني (عبر الملتيميديا) اسمه: من ذاكرتنا الوجدانية أو الإنسانية.
في مسار الثورة السورية كثير من المواد التي يمكن أن يدلف إليها "علم الإناسة"، حيث إن خلف كل سوري قصة وجدانية، وما على مُعدّي البرامج سوى طرق الأبواب، وفي الوقت الذي يوقظون فيه المواجع نرسخ حكايتنا، التي تحمل قصص أرواحنا وتحولاتها. سيرة كل سوري/ سورية ممن عاش في القرن الحادي والعشرين تفاصيل وتحولات تستحق أن تدون بصفتها نماذج إنسانية قابلة للحياة الطويلة الأمد.
مآلات كل منا، لا نعرف أخبار الغائبين وأين آلت أمورهم؟ وأين أصبحنا؟ يمكننا أن نسأل عن منشدي الثورة السورية مثلاً وأين أصبحوا، الفاعلون الوجدانيون وحكايات البيوت والأمهات التي تنتظر الغائبين؟
قد يكون كثير من السوريين والسوريات فتحوا مغاسل للباس، أو دخلوا في خيارات بعيدة عن خيارتهم الأساسية، لكن هناك دافع كبير لدى كثير منهم، هو أن يعيشوا وأن يكونوا؟ هذا كذلك يمكن أن يكون عنوان مادة إعلامية دورية، أين كنا وأين أصبحنا؟
ولا تبحث، عزيزي فريق الإعداد، عمن أكمل في مهنته الأساسية، ذلك حكاياته معروفة، لن يقدم لك المدهش الذي يجلب أعداداً كبيرة من المشاهدات، ابحث عمن تعلم في الخمسين كيف يغسل ويجلي ويطبخ، حين تركته حبيبته فجأة لتبحث عن مستقبلها الضائع الذي شتته الحرب!
يمكنك أن تبحث عن أستاذ جامعي فتح مطعماً وبات يوصل الطلبات إلى البيوت، لا تتردد: اطرق الباب وأوقظ المواجع، خلف كل وجع حكاية صامتة، دوّنها وحولها إلى مادة إعلامية موجعة ولطيفة معاً! نعم، نعم، للدُور روح كما للناس أرواح، ابحث عن تلك الأرواح، ابحث عن ناشر سوري يعمل في معمل لدباغة الجلود، ويمكنك أن تجد في طريقك كاتباً سورياً ليس لديه بيت، وكذلك هناك إعلامي ظن أن الحرية تعني أن يقول كلمته دون انتباه لسياسات المؤسسة التي يعمل فيها أو يراعي تفاصيل الآخرين، ففتح محلاً لبيع الفلافل، غير أن زبائن الأكل يبحثون عن اللقمة الطيبة، وصاحبنا الإعلامي لم يكن أحد يستمتع بمقالاته، غير زوجته التي تخلصت منه حين عثرت على مكان مناسب، فما بالك بمن سيأكل سندويشاته؟
نعم، علينا أن نطرق الأرواح بلطف شديد، لأن كثيراً من الألم يرقد خلفها، ليس من الضروري أن تكون لدينا الحلول دائماً، يكفي أن يشعر الأحباب والأصحاب الغائبون أننا معهم، وقد تفرقوا في دروب الأرض من وجع وليس من شماتة، وقبل أن تلوم الشامت، عليك أن تبحث في الأسباب النفسية التي جعلته يشمت؟ أيُّ وجع تنطوي عله روحه، وما الذي يجعله يشمت؟
بمفهوم ما، لا يوجد إنسان سوي يفرح بمصائب الآخرين، إلا إن كان لديه ألم كبير، وعلينا أن ننقب في الأفعال التي قمنا بها حتى وصل لدرجة الشماتة بنا؟ أم أنا ذاكرتنا قصيرة جداً، ونسينا، وفي لحظة ألمنا لا نتذكر سواها؟ ونسينا الألم الذي كنا سبباً في صناعته له؟
في لحظة ألم، وانكسار وخوف من مستقبل هائم، لا تتردد أن تقول:
ارفع راسك فوق،
إنت إنسان حر،
ارفع راسك
احمِ ذاكرتك
وقلبك
وخياراتك
وأحلامك التي تفرقت في دروب الأرض وانتثرت. لا تقلق، أهل الود لم يرحلوا، لا بد أن تجدهم يوماً، ضاعت البوصلات لديهم.
لا تتردد في أن توقظ أوجاعك، هناك خلف وجعك حكايات وسرديات، أخرجها من قلبك بأي طريقة تريحك، ودندن مع من غنى:
"وشلـون مـا اغليـك
وأنت الـذي علمتنـي حبــك
يا هـاجـسي ... عشقـي عيـونـك
اسـأل ... وتلقـى الجـواب"