هموم نقدية على مشارف تطبيق قانون قيصر

2020.06.13 | 00:01 دمشق

syria-lira-1.jpg
+A
حجم الخط
-A

مسلم طالاس

مع اقتراب موعد تطبيق قانون قيصر، لكن ليس بسببه فقط، يستمر الانحدار المتسارع في قيمة الليرة السورية ويزداد قلق الناس حول معيشتهم وغدهم، وترتفع الأصوات الداعية إلى استبدال عملة أخرى بالليرة السورية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري ، وعلى الأرض يتحول الناس عن الليرة السورية بسرعة وضمن الطاقات والخيارات المتاحة. في نفس الوقت هناك أصوات ترد على تلك الدعاوي لأسباب تكنيكية وسياسية، تتعلق بمسألة ارتباط استبدال العملة بالانفصال السياسي. في هذه المادة نحاول أن نلقي بعض الأضواء على الأسباب  الكامنة خلف تلك الدعاوي من المنظور الاقتصادي النقدي والتحديات التي يمكن أن تطرحها عملية الاستبدال.

من المهم أن نعلم أن النقود (وخصوصا النقود النقدية) هي في الأساس عرف اجتماعي، بمعنى أن النقود في ظهورها تطورت كعرف اجتماعي كما تطورت اللغة. أي أن قبول أي شخص منا لقبول قطعة نقدية ما(سلعية أو ورقية) مرتبط بمدى قناعتنا أن الآخرين يقبلونها بنفس القيمة، كما أننا نستخدم كلمة تفاحة  للإشارة إلى تلك الفاكهة الحمراء والصفراء والحلوة والكروية.. ويفهم الآخرون علينا لأنهم يستخدمون نفس الكلمة ويعرفونها. لذلك فإن قدرة النقود على القيام بعملها يرتبط بالدلالات الاجتماعية (الاقتصادية لاحقا) التي يربطها الناس بها بشكل عام أي القيمة المستقرة. ويمكن أن نصوغ الأمر بلغة أحدث بأن قدرة الناس على نقل أفكارهم بشكل دقيق للآخرين من خلال اللغة يتوقف على وحدة واستقرار الرموز الدالة على الأفكار. وقدرة النقود على أداء وظائفها، والتي يمكن أن نجملها بأداء وظيفة لغة الاقتصاد يتوقف على وحدة واستقرار القيمة التي يعزوها الناس لها. 

مع التطور التاريخي، ولأسباب عديدة، لكن أهمها تأمين استقرار قيمة النقود (محاربة التضخم وتأمين استقرار سعر الصرف)، انتقلت وظيفة إصدار النقود إلى الدولة، ممثلة غالبا بالبنك المركزي. وقد تبلور هذا الأمر بشكل واضح بعد الانتقال التام من النقود السلعية (المسكوكات المعدنية)  إلى النقود القانونية (العملة الورقية). باعتبار أن النقود السلعية لها قيمة معينة بحد ذاتها، لكن النقود القانونية هي أوراق ليس لها قيمة محددة بل تستمد قيمتها من الوضع الاقتصادي والسياسي للدولة المصدرة. لذلك أصبح هناك عقد نقدي غير معلن بين الناس أو المجتمع والدولة،  يقبل الناس بموجبه النقود الورقية التي تصدرها الدولة كنقود على أن تلتزم الدولة بالحفاظ على استقرار قيمة تلك النقود أي سلامة لغة الاقتصاد في دلالات الرموز والمعاني. وما تستفيده الدولة من تلك العملية هي دفع العملية الاقتصادية للأمام بشكل عام. لكن المقابل المباشر للعقد هو الاقتراض من الناس. فكل شخص يقبل في معاملة اقتصادية ما ورقة نقدية يعني أنه أقرض الدولة المصدرة ما يعادل قيمة تلك الورقة النقدية من سلع وخدمات طوال مدة احتفاظه بها، وعند انتقال الورقة النقدية إلى شخص آخر يصبح ذلك الشخص الآخر مقرضا الدولة بنفس المقدار.

ما يحدث الآن في سوريا هو هبوط مستمر في القيمة الداخلية والخارجية للعملة، أي تضخم مستمر وهبوط مستمر لسعر الصرف، يحمل المواطنين واقتصاد البلد كل الآثار السلبية للتضخم. ومن المتوقع أن يزداد ذلك الهبوط بشكل أكبر بعد تطبيق قانون قيصر. أي أن الدولة السورية بشكل مقصود أو غير مقصود تخلت عن العقد النقدي.

رد الناس على ذلك، وكما يحدث عادة، بالتخلي من طرفهم عما يستطيعونه من العقد النقدي، أي التراجع عن استخدام الليرة السورية في المجالات التي يجدون بدائل لها. الليرة السورية حاليا تقريبا فقدت كامل وظيفتها كمخزن للقيمة، حيث يخزن الناس ثرواتهم في الأصول المادية والذهب والعملات الأجنبية. وبدرجات متفاوتة فقدت الليرة وظيفتي وسيط التبادل ومقياس القيمة والتسعير، وهذا ما يدفع أكثر وأكثر نحو تراجع قيمتها وزيادة التضخم. لماذا لا يستطيع الناس التخلي عن الليرة السورية بالكامل؟

في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام هناك عدة أسباب: أولا، هناك السبب القانوني الذي يلزم بالتعامل والتسعير بالليرة السورية ويجرم التعامل بالعملات الأجنبية. ثانيا، باعتبار الدولة هي أكبر فعالية اقتصادية في البلد وغالبية الناس يتعاملون معها بشكل أو بآخر اقتصاديا فهم مضطرون للتعامل بعملتها، على سبيل المثال فإن أصحاب الرواتب من الموظفين ودافعي الضرائب وموردي السلع الخدمات للدولة ليس لديهم خيار سوى التعامل بالليرة السورية. مع ذلك هنا درجة عالية من الدولرة في التعاملات الضخمة والتهرب من استخدام الليرة كمخزن للقيمة.

في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام هناك تعامل أقل بالليرة السورية لكنها مستمرة في التداول. هنا لا يوجد قانون واضح يفرض التعامل بالليرة السورية أو يجرم التعامل بالعملات الأجنبية. لذلك فإن سبب الاستمرار أساسا هو وجود فعاليات اقتصادية هامة جدا ما زالت مرتبطة بالنظام بشكل أو بآخر. فهناك موظفون ما زالوا يتلقون الرواتب من حكومة النظام وهنا فعاليات اقتصادية شرعية وسوداء ما زالت تدفع الضرائب لها وتتبادل معها منافع اقتصاد الحرب الذي هو ربما علامة وحدة سوريا الوحيدة الباقية. إلى جانب ذلك هناك غياب للترتيبات المؤسسية النقدية والمصرفية الموحدة التي تساعد في التحول. أي ليست هناك مرجعية ذات سلطة قادرة على بناء ترتيبات نقدية- مصرفية يمكن أن يتم الاستناد لها في التحول. 

وبعد؟ في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام يستمر الناس في التخلص من الليرة بأشكال مختلفة لكنهم ما زالوا مضطرين لاستخدامها جزئيا والتعرض للنتائج الكارثية لهبوط قيمتها. هل يستطيع المتنطحون لدور السلطة في تلك المناطق القيام بعمل ما؟ الجواب نعم من الناحية النظرية، لكن من الناحية العملية هناك كثير من الصعوبات. والمطلوب حاليا:

هو وجود سلطة إدارية (سياسية) موحدة نوعا ما وذات مصداقية تضبط منافذ الاحتكاك مع النظام.

ضبط العلاقات الاقتصادية مع مناطق سيطرة النظام سواء كانت في الاقتصاد الأبيض أو الأسود، وهذا الأخير ضخم وخطير وذو نفوذ قوي جدا.

الإعلان عن عملة ما مبرئا قانونيا لكل الذمم المالية والتسعير ودفع الضرائب والرواتب بتلك العملة (يمكن أن تكون الدولار أو الليرة التركية أو الدينار العراقي......إلخ على أن تكون العملة على درجة مقبولة من الاستقرار).

إنشاء مكاتب مصرفية في المدن ومراكز التجمع البشري الكبرى تقوم تلك المكاتب بدور المصارف في تلقي الودائع وتسوية الديون بين الناس عن طريق الائتمان وكذلك تتولى عملية تحويل الليرة إلى العملة المعتمدة. كذلك يمكن لتلك المكاتب أن تقدم بعض القروض القصيرة بالعملة البديلة..

تخصيص كمية كافية من العملة المعنية لكي يتم ضخها في السوق عن طريق المكاتب المصرفية عند ظهور علامات على الانكماش ونقص العملة.

هل هذه دعوة للانفصال؟ بالتأكيد لا. بل مقترحات لحلول مؤقته في محاولة للتخفيف من معاناة  الناس حيث يمكن تخفيفها. وللتدليل على أن الأمر ليس انفصالا يمكن أن نشير إلى أن هناك كثيرا من الدول في العالم لا تمتلك عملتها الخاصة بل تستخدم عملة دولة أخرى، السلفادور والإكوادور وتيمور الشرقية على سبيل المثال تستخدم الدولار الأميركي, ولم ينتج عن ذلك إلحاق الأولى بالثانية سياسيا. وكذلك هناك تجربة استخدام  الدينار العراقي الطبعة السويسرية (الدينار السويسري) في كردستان العراق طوال الفترة 1993-2003, بينما كان العراق في ظل الحكومة المركزية يستخدم طوال تلك الفترة الدينار العراقي طبعة ما بعد عامي 1991 التي سميت بالدينار الصدامي. بعد عام 2003 أعيد توحيد العملة والبلد.