برّرت معظم النخب الثقافية والسياسية السورية نأيها عن الانشغال المباشر بالشأن العام السوري طوال سنوات خلتْ، بانزياح المسار الثوري عن نهجه الصحيح وابتعاده عما تطلّع إليه معظم السوريين إبان انطلاقة الثورة.
كما عزتْ تلك النخب نأيها المشار إليه إلى حالة التردّي الثوري الذي بدأت إرهاصاته الأولى مع الاختراقات التي حققتها قوى التطرف والإرهاب داخل أنساق الثورة منذ منتصف العام 2013، مروراً بتعزيز الحضور الإقليمي والدولي في المشهد السوري عسكرياً وسياسياً، وبالتالي فقد أسهمت هذه العوامل جميعها في خروج القضية السورية من الحيّز الوطني، لتتحوّل إلى مشكلة إقليمية لا تنحصر تداعياتها في الحدود الجغرافية السورية فحسب، بل تحولت إلى عبء إقليمي وعربي، وبناء عليه فإن التفكير في المشكلة السورية من جانب الأطراف الدولية المتضررة من استمرارها لم يعد معنياً بما يدعى (المصلحة الوطنية السورية) بل بالسعي لإبقاء النزيف السوري داخل أسوار سوريا والبحث عن حلول ولو استدعى ذلك إغلاق الجراح على قيحها كما يقال.
الحراك الشعبي كردّ على وضاعة السياسة
لقد أتاح انكفاء النخب عن المشهد العام حضوراً منفرداً لكيانات سياسية وعسكرية حظيت برعاية دولية وإقليمية بوصفها ممثّلةً لثورة السوريين، وقد حرصت تلك الكيانات على التماهي المستمر مع توجهات الراعي الخارجي حرصاً منها على استمرارية وجودها (كسلطة)، في الوقت الذي لم تكن تكترث كثيراً لمصدر شرعيتها السورية إلّا بمقدار ما يوجب عليها دورها الوظيفي ذلك، ما عزّز الفجوة بينها وبين الجمهور العام، تلك الفجوة التي لم تكن مصدر قلق لتلك الكيانات طوال السنوات الماضية، لاستقوائها المستمر بالراعي الخارجي وليقينها – ربما – بأن الحاضنة الشعبية للثورة قد استنفدت دورها خلال الأشهر الأولى للثورة، ولم يعد لها أي دور فاعل أو مؤثر في مستقبل القضية السورية الذي بات محكوماً بالتفاهمات بين الدول.
تُفصحُ المآلات الراهنة للمشهد السوري عن عطالة كاملة لكيانات المعارضة الرسمية من جهة عدم قدرتها على مقاومة المشاريع الفاعلة على الأرض السورية، والمتمثلة بتعدد سلطات الأمر الواقع من جهة، وكذلك بعدم قدرتها على تحصين القضية السورية من الاندثار أمام ما تواجهه من اختراقات عربية وإقليمية من جهة أخرى، ولعله من غير المُستغرب أن تغيب في هكذا حالات موغلة في الإحباط أصوات المشغِّلين والمُشتغلين معاً، وترتفع أصوات الضحايا فقط، باعتبارها صاحبة مصيرٍ مُستهدَف يتجاوز حدود المصالح الآنية للجماعات والأفراد، ومن هنا لا بدّ من الإقرار بأن تصاعد وتيرة الحراك الشعبي في مناطق مختلفة من سوريا ما هي إلا شكل من أشكال الردّ الشعبي على تهافت السياسة الرسمية للمعارضة من جهة، ومن جهة أخرى هي ردّ في الوقت ذاته على السياسات العربية والإقليمية حيال القضية السورية، والتي تنذر إرهاصاتها الحالية باستهداف مصير الملايين ممن جاهروا بمناهضتهم لنظام الإبادة الأسدي، وتتشاطرهم مخيمات النزوح وبلدان اللجوء.
لو تجاوزنا التحديات الأمنية واللوجستية التي يواجهها حراك الداخل سواء في الجنوب أو الشمال، سنكون بلا ريب أمام تحدّيات أخرى لا ينبغي التغاضي عنها.
ولئن كان من الصحيح أن حركة الاحتجاجات الشعبية ما تزال تتمحور في منطقتين متباعدتين جغرافياً، الأولى في جنوبي البلاد والثانية في شماله الغربي، إلّا أنهما تنبثقان بفعل دوافع واحدة، وتجسّدان تطلعات واحدة أيضاً، إذ تؤكّد كلتاهما على قطيعة تامة مع أي مسعى من شأنه إعادة سوريا الذبيحة إلى يديْ جلّادها مرة أخرى، وهذا لا ينفي بالطبع اختلاف الظروف التي يخضع لها الحراك الشعبي في كلا المنطقتين، إذ في الوقت الذي يحظى فيه حراك مدينة السويداء الذي انطلق من أواسط شهر آب من العام الفائت حصانة أمنية نسبية نتيجة غياب سلطة نظام الأسد أو أي سلطة أمر واقع أخرى، فضلاً عن دور الروابط الدينية والاجتماعية في تعزيز الحشد والمواجهة، فإن الحراك في مدن وبلدات الشمال السوري ما يزال يواجه تحديات عديدة، لعل أبرزها سلطة أمر واقع تتقاسمها من الناحية الفعلية كيانات مختلفة، مدنية وعسكرية فصائلية، لعلها ترى في ارتفاع وتيرة الاحتجاجات الشعبية ما يهدّد مصالحها أو يقوّض امتيازاتها، ولكن على الرغم من ذلك فإن استمرار الحراك وحرصه على نصاعة صوته ووسائله السلمية وابتعاده عما يخرجه عن مساره النضالي الصحيح هو السبيل الأمثل لديمومته.
ولو تجاوزنا التحديات الأمنية واللوجستية التي يواجهها حراك الداخل سواء في الجنوب أو الشمال، سنكون بلا ريب أمام تحدّيات أخرى لا ينبغي التغاضي عنها، بل يمكن التأكيد على أن تلك التحديات هي ما يجعل كثيرين في حالة ريبة وخوف على مستقبل تلك الانتفاضات المتصاعدة، ونعني بذلك العودة إلى المعضلة ذاتها التي واجهتها انتفاضة السوريين إبان انطلاقتها في آذار 2011، أي غياب الإطار أو الحامل السياسي القادر على تحويل المُنجز الثوري للحراك إلى مواقف سياسية، إذ لعله من المؤسف التأكيد على أن الحالة الحزبية السورية خلال ثلاثة عشر عاماً لم تفرز كياناً سياسياً – حزباً أو تياراً أو تجمعاً – لديه القدرة على أن يكون مظلة سياسية للحراك الوطني من جهة، وكذلك لديه ما يمكّنه من استعادة المبادرة الوطنية من جهة أخرى، ولعل استشعار تلك المخاوف كان الدافع الأبرز للقائمين على الحراك سواء في الجنوب أو الشمال إلى المبادرة بتشكيل كيانات قيادية تنبثق من الحراك ذاته، من ذلك مثلاً، الخطوة نحو تشكيل هيئة عامة في السويداء لانتخاب هيئة سياسية أو قيادة تتولّى توجيه الحراك وتمثيله، وتزامناً مع تلك الخطوة، كانت خطوة مماثلة في الشمال السوري تم الإعلان عنها عبر البيان الذي صدر عن اعتصام الكرامة في الثاني عشر من تموز الجاري.
ما هو حاصلٌ بالفعل أن الخذلان الذي واجهه الحراك الشعبي السوري إبان انطلاقته في آذار 2011 نتيجة غياب القوى السياسية الفاعلة والمؤثرة، قد يتحوّل إلى خذلان مركّب
ليست هزائم ثقافية بل أخلاقية
بالعودة إلى دور النخب الذي بدأت به المقالة، يمكن القول: كان من الممكن أن يكون للنخب الثقافية والسياسية السورية دور مهم ومؤثر في مؤازرة الانتفاضات الشعبية المتصاعدة في الداخل السوري سواء في جنوبي البلاد أو شماله، نظراً لنصاعة صوت تلك الاحتجاجات وعدالة مطالبها وتماهيها أخلاقياً وإنسانياً مع تطلعات عموم السوريين، فضلاً عن كونها بعيدة عن سطوة وتأثير القوى الخارجية والسلطات الداخلية التي كانت تعتبرها النخب ذريعة لابتعادها ونأيها عن أي نشاط مباشر ذي صلة بالشأن العام، ولكن يبدو أن ثمة إصرار لدى معظم تلك النخب بمجافاة أي حركة شعبية من شأنها أن تضعهم أمام مسؤولياتهم كمثقفين وساسة، لا لأسباب تتعلق بطبيعة الحراك الشعبي ذاته، بل لأسباب تكمن في تفكير وسلوك تلك النخب ذاتها، إذ بموازاة ما تشهده احتجاجات الداخل من ارتفاع في حدّة المواجهة المصيرية، تجنح كثير من النخب للتدليل على لا جدوى أي حراك شعبي أو التقليل من شأن أي منجز شعبي، سعياً إلى التنصّل منه، ليقينها بعطالة الوعي الشعبي المنبثق من بنية فكرية متخلفة، هي على الأغلب نتاج مجتمع فاقد لمفاهيم الحداثة وما يزال يجتر موروثاً دينياً مُنتجاً لكل لوثات التخلف، وفقاً لتلك النخب، وربما هذا ما دفع كثيرا من المثقفين السوريين نحو الاشتغال بموضوعتين مركزيتين، أولاهما تتمحور حول الانقسام المجتمعي السوري، انقسام عرقي وعشائري وديني وطائفي، وقد تجلّى عملياً – وفقاً لهؤلاء – بعودة سواد السوريين إلى حواضنهم البدائية – العشيرة أو الطائفة أو العائلة – علماً أن تلك الانقسامات التي يعضّ عليها النخبويون بالنواجذ هي بالأصل نتيجة لغياب العقد الجامع الوطني، وسبب غيابه هو إخفاق النخب ذاتها وليس غريزة الارتكاس المتأصلة في المجتمع، وبالتالي فإن الانقسام هو نتيجة وليس سبباً كما يدّعي البعض. أمّا الموضوعة المركزية الثانية على مائدة النخب التنويرية فهي الدين الذي يوحي استمرار تجذّره لدى أغلبية السوريين باستمرار حالة العقم الفكري لدى العامة، واللافت في الأمر هو كأن هؤلاء قد اكتشفوا للتو بأن النسبة الغالبة للسكان في سوريا هي من المسلمين.
ما هو حاصلٌ بالفعل أن الخذلان الذي واجهه الحراك الشعبي السوري إبان انطلاقته في آذار 2011 نتيجة غياب القوى السياسية الفاعلة والمؤثرة، قد يتحوّل إلى خذلان مركّب، مع انكفاء المثقفين وتنصّلهم من مسؤولياتهم الأخلاقية حيال احتجاجات أهلهم السوريين.