هل يحق لنا التهكم على العلمانية، الفلسفة، الثقافة، الطوائف والأديان؟

2024.08.10 | 06:50 دمشق

العلمانية
+A
حجم الخط
-A

في ريف ناء على حدود العراق شرقا، وفي قرية تلبس ثوب الصحراء ويشيخ وجهها بالغبار، يزورني السرياني "داني آبو مع جورج، ويزورني أبو نينيب" نسهر بود واحترام مسيحيين ومسلمين، أستأذنهم للصلاة وأعود، ويفسحون لي مكانا للصلاة عندما أزورهم، وحين يخاض نقاش ديني بعيدا عن العامة وسطحيتها أو قطيعيتها، أو تأطيراتها الجاهزة يطرح المسيحي اعتقاده أن الإسلام مسروق من بحيرى الراهب؛ ويعبر المسلم عن اعتقاده في بشرية المسيح، ويسوق كل منا آراءه وحججه، وقد يتهكم كل منا على الآخر بنكهة محبة دون شائبة. جمعنا الشتات في ألمانيا وتشاركنا الاحتفال بفوز المغرب في إحدى مباريات دوري قطر؛ وهو السرياني غير العربي وغير المسلم والذي شاطرته الضحك ونحن نقرأ تعليق أحد السوريين على صفحة صديقنا المسيحي المحتفل أيضا، "إنه انتصار للعروبة والإسلام"، ضحكنا على الأمر ذاته رغم اختلاف عقائدنا، فقد كان يجمعنا أننا أبناء هذي البلاد؛ وأننا أبناء هوية عربية إسلامية بعجرها وبجرها ولكأنها روح الشرق الذي يسكننا.

إن استيعاب ذاك الصديق لمفهوم هوية عربية وإسلامية؛ قد يأخذ تمثيلات أخرى واسعة ينتمي لها كثيرون كعروبة ثقافية، وثقافة إسلامية لا تنفي خصوصية أي عرق أو معتقد، هوية تشارك ببنائها الجميع، وليس أدل على ذلك التشارك من كتاب صدر حديثا للباحث نجيب عوض عن "المسيحية الأموية".

في مكان ثانٍ – فرنسا - حصل موقف آخر قبل أسبوع يفيد في المقارنة؛ فبعد انقطاع النت عن جزء من العالم تساءل دكتور سوري في الفلسفة عبر منشور على فيس بوك (إن كان هناك إنترنت في الجنة؟)، ليفتح منشوره باب التهكم، لا على الدين فحسب، بل وعلى المعتقدين به؛ فعلقت بضرورة تجنب المثقف المشتغل في المجال العام -والفيلسوف كما يقدم نفسه- عن طرح ما يشجع الآخرين على التهكم والسخرية من عقائد الآخرين، خصوصا وأننا أبناء بلاد ابتليت بالحرب؛ ونعيش شتاتاً في الوجود والثقافة والتجاذب والتنافر؛ وحريٌ بنا أن نطرح ما يجمعنا، ويتجاوز التنابذ، لكن ورداً على تعليقي كانت رؤية الصديق النبواني التمسك بأحقية ممارسة التهكم "باعتباره حقا فلسفيا؛ ويحق لمن يريد من المعلقين أن يتهكم على أفكار لا يقتنعون بها مع الإشارة إلى أنها ليست مجانية وتتقصد فكرة يعتنقها المؤمنون حيث يرفضون الاختلاف ويرونه تهجما".

ما استوقفني في الرد هو استسهال اللغة التعميمية التي تؤطر الآخر عبر نهج مانوي ينظر حامله لنفسه كمثقف حر، وينظر في الوقت ذاته لكل من يخالفه كجاهل تابع أو مغيّب، وهذا في الحقيقة ما يفتح باب التساؤل عن الموقف النخبوي المبتلى بثقافوية محضة، وعن أثر هذا الموقف في بناء مفهوم تشاركي مجتمعيا ووطنيا.

ليس مهماً الشخص هنا، ولا موقفه أيضاً، إلا بما يدفع لإثارة الأسئلة عن الحالة المقابلة التي افتتحت بها المقال، إذ لا يسع المرء أمام ذلك إلا أن يسقط في يده، حين يرى انزياحا في موقف المثقف من مجتمعه، وفي دوره الرسالي الذي يضطلع به، فيصبح -وعلى غير المتوقع- ضحية للتحيز والأدلجة! وقد أشرت في مقال سابق عن حرية التعبير وحدودها إلى (عقم مثقفينا في البحث عما يشكل فتحا وليس بحاجة لتزكية مؤسسة غربية)، وإلى عجز مثقفينا عن اجتراح تعريف جامع مانع لوضع حدود حرية التعبير عن الرأي؛ جامع لما ينبغي أن يُتضمن فيه من نقد ورفض وحجاج حول مسلمات الموضوع المعبَّر ضده، ومانع لما ينبغي تجنبه مما يدخل في خطاب الكراهية، أو التمييز على أساس المعتقد، أو يجانب النقد العلمي تحت مسماه المائع، أو جميعها معاً، ولا أعتقد أن وضع الحدود هنا يتنافى مع العقل غربيا كان أم شرقيا؛ رغم أهمية الانتباه لتمييز مفردة العقل في الثقافة العربية، والتي تعني التحديد والربط (دينيا، وأخلاقيا، وقيميا)، والضبط لتكون حرية الرأي متمايزة عن هوىً ورغبة يخضع له العقل فيصبح منفلتا؛ في حين اشتق العقل غربيا من الحساب -حساب المنفعة- وفقا لتعبيرات الجابري للتمييز بينهما؛ وكلاهما لا يختلفان على ضرورة تعريف حدود حرية الرأي بإخضاعها لمعايير واضحة تنجيها من الخلط والتجاوز. وهذا ما يُظهر الفرق بين عقل عربي وآخر غربي، ورغم أن الأول بقي حبيس ظرف تاريخي من مخلفات السلطنة والعهد الكولونيالي والتأخر المادي مقارنة بالغرب، لكنه مبني على مفهوم الصواب المشتق من قيم رؤية كونية لحياة البشر تنطلق من وجود إله للكون، ومن استخلاف مشروط بعمل الخير، بينما يشتمل الثاني /الغربي، على هالة من الأدوات العلمية ووهج حداثة مركزية مهيمنة، حتى صار أداتيا يبتدع مفهوم الصواب باقترانه بالمنفعة ولا شيء سواها.

إن انقياد العقل العربي للآخر الغربي وانغلابه أمامه في موضوعات شتى، ومنها بطبيعة الحال حرية التعبير والرأي، هو ما أدخله في شتاته المعاصر، وجعله معزولاً عن واقعه حين أراد الخروج عن موروثه عبر تقليد غالبه رغم وفوده من فضاء مغاير تماماً فتجاوز تقليدا بتقليد.

إن تقزيم الدين، أياً كان هذا الدين، واختزاله إلى فكرة يمكن التهكم عليها، يفتح مجال التهكم على الأديان، والعقائد والطوائف والفرق والمذاهب والجماعات، ليحدث كل ذلك في ظل غياب دور الفلاسفة من أتباع هذه الأديان والطوائف، بحجة تجاوزهم لها أحياناً بدعوى التمسك بالعقل، أو ادعاء هذا التجاوز في الظاهر، دون خروجهم منها ضمنيا.

إذا كان لا منجى لنا من التحاور وتفكيك سردياتنا الداخلية ضمن كل جماعة؛ سعيا لبناء الجماعة الوطنية الأعلى من الجميع؛ فلا بد أن ينبري للمهمة من هو أهل لها ممن يقدرون على تفكيك وتجاوز العقد وتسوية المظلوميات، الصادقة منها وحتى الكاذبة.

ويحضرني في هذا الصدد ملف نشرته "العربي الجديد" عن السرديات البينية لدى ثنائيات ريف ومدينة، أديان وطوائف، وأهمية تحلي المثقف بحس المسؤولية والجرأة على الاعتراف والمواجهة؛ مواجهة ذهنية الجماعة التي ينتمي لها، ومحاولة كشف ما لا تقوله على العلن، ولا شك في أن تلك محاولة تحمل الرصانة التي ينبغي حملها في كونها تأتي استجابة لدعوة وضاءة مفادها: هلموا ولنجلس معا فنفكك سرديات كل منا عن الآخر.

يتسلح مثقفنا بأحقية التهكم انطلاقا من أن الفلسفة، وبسبب اعتدادها بالعقل دون حدود، ضمنت التهكم وبنت عليه، وكأنما يستعيد هنا سيرة سقراط حين اقتيد ليحاكمه مواطنوه الإثينيون بتهمة التهكم على الآلهة، في محاكمة شبه صورية لم يريدوا منها سوى أن يطفئوا نار غضبهم من تهكمه المضمر عليهم شخصياً، فأثبتوا عليه التهمة ثم منحوه العفو، غير أن رغبته بالتهكم غلبت على رغبته بالنجاة يومها، فلم يراجع نفسه ولم يتراجع عن خطابه، لتقع المأساة الشهيرة التي ما زال أغلب الفلاسفة متمسكين بالسردية اللاواقعية حولها، سردية غلبة الغوغاء على العقل، بينما هي في الأصل خروج الفرد عن الجماعة، فهل خرج فلاسفتنا ومثقفونا عن جماعاتهم فعلا؟

لا يبدو دفاع الفلاسفة عبر التاريخ عن تهكم سقراط سوى ضرب من التعاطف معه على فعل أغلبهم لم يفعله، ولم يخرج هذا التعاطف، إلا فيما ندر، عن تقليد أفلاطوني تسببت به محاكاة إيمان التلميذ بمظلومية أستاذه، وبالمناسبة فقد كان أفلاطون متهكماً أيضاً، لكنه لم يمس الآلهة بسوء، ولم يتجاوز عتبة ما يُغضب مواطنيه بعدما رأى مصير أستاذه!

التهكم عنف لفظي واعتداء لا يُجاز إلا حين يوجهه المتهكم على نفسه، ولا يستقيم مع مفهوم النقد والمناظرة والحجاج بين جماعتين؛ بل هو مجرد فعل يدفع لتكريس التنابذ والشقاق لدى من يمكن أن نسميهم العامة مقابل النخبة، وهم عامة من جهة أنهم لا يقيمون وأدا لتشارك، أو لا يبالون بما يودي للفرقة والتناحر، بل ويقصر وعيهم عن اجتناب مسبباتهما، وعن إدراك معنى الصواب المجرد عن الرغبة والهوى.

إن الحداثة التي بدأت برؤية الصواب عبر قتل الإله لتؤله الفرد ومنفعته؛ استخدمت هذا الأخير واستعبدته دون ضابط قيمي أخلاقي، ليصبح ضحية رأس المال الذي بات يفكر في بناء إنسان ما بعد الإنسان – أي نحن كـ روبوتات- ضمن مفاهيم الحداثة السائلة وصولا إلى الحب السائل؛ واقتصاديات السوق، ولا ينكر فلاسفة اليوم أن السعادة استبدلت باللذة، وأن القيمة استندت إلى القدرة على التملك، فوقع الفرد فريسة ذاك السعي البليد والبعيد عن إنسانيته وروحه.

إن الحداثة والعلمانية والعولمة مفاهيم اختلطت أدواتها وآفاقها ومجالاتها، فباتت حزمة واحدة لم يميز مثقفونا بين أي منها إذ لا يمتلكون أدوات عزلها؛ فما زالوا عاجزين مثلاً عن تبيئة العلمانية بما يتناسب وخصوصية مجتمعاتنا؛ وما زالت تتجلى لهم ككتلة واحدة مصمتة رغم اختلاف أنماطها وأشكالها وتأويلاتها، دون تمييز منهم بين ليبرالية بريطانيا، وعلمانية أميركا، ولائكية فرنسا؛ أو علمانية ألمانيا التي تتوزع تسميات روضات الأطفال وكثير من المشافي فيها بين إنجيلية (بروتستانتية) وكاثوليكية؛ في حين ينبري مثقف متفلسف لإطلاق دعوة لإغلاق المساجد؛ ولعل تساؤلا قادما من المجال الأخلاقي الديني يحضر هنا – هل من الضرورة أن يكون كل مباح صوابا؟

ذاك خطل وقع فيه الإسلاميون رغم نصوصهم وحدودها، كما وقع فيه العلمانيون الذين بلا نصوص تضبط؛ وأضافوا التقليد فكل مباح في الغرب -كالتهكم- أبيح لدينا وأصبح مقترناً بشتى أشكال التعدي على الآخر لفظيا، فبتنا كما يقول الفيلسوف طه عبد الرحمن عن الفلاسفة العرب مبتلين بالتقليد الأعمى "أوّلوا إذا أول الغرب وحفروا إذ حفر، وفككوا إذ فكك، وقد كانوا سابقا وجوديين أو شخصانيين أو ماديين أو جدليين"، وصار لزاما على المثقف العربي إذا أراد أن يدين التهكم أن ينتظر الثقافة الغربية لتدينه أولاً، كما دانت التنمر والذكورة وسلطة الآباء، وإلا فهو متخلف ورجعي.

ولا يغيب عن عاقل أن التهكم بين أطراف مختلفة؛ يفتح ساحة سباق العامة التي تحتاج حشودا أو تخترعها، وتستدعي تحشيدا مقابلا؛ لا يختلف عن سباق السباب والقذف بين طرفين دون إنتاج أدنى معرفة، لابد من قواعد واضحة ومعايير بيّنة وشروط محددة، كما أنه مرتبط بذائقة تغلب فيها المهارة والحنكة التي تميز بين فرد وآخر، ويتطلب الحكمة كالفرق بين أفلاطون الذي تهكم كثيراً دون أن يُمس به؛ وسقراط الذي أعدم.