يقصد بالتلفزيون المحلي تلك الشاشة التي تهدف بشكل رئيسي إلى تناول شؤون خاصة ببلد ما، مع أن الكثير من الشؤون المحلية تتقاطع مع الإقليمي والدولي. وفي سياق هذا نقصد بالتلفزيون المحلي تلفزيون سوريا، الذي يعرِّف عن نفسه أنه يتوجه لكل السوريين، للإضاءة على قضاياهم في الداخل والشتات. والدفاع عن قيم الثورة السورية عبر تعزيز مبادئ المدنية والمواطنة في سوريا الجديدة، ورفض التسلط والديكتاتورية، والتطرف الديني، مؤكداً على وحدة سوريا شعباً وأرضاً ومحاولة الإضاءة على إمكانات التغيير الإيجابي، وإظهار الشخصية السورية الخلاقة، في إطار احترام التعددية كوجه يميز ثقافة السوريين.
تأملُ مشهد البرامج التلفزيونية يكشف أنه ما من برنامج تلفزيوني يعاني مثلما يعاني البرنامج الثقافي، لعدة أسباب:
الجمهور الداخلي ذاته هل هو متاح؟ وهل يمكن أن يخصص وقتاً لبرنامج ثقافي، ولقمة الخبز عزيزة على كثير منهم، والدفء غير متوفر، والأمان مفقود؟
- مفهوم الثقافة، والحيز العريض الذي تشمله: الأدبي والفني والموسيقي والفكري والتراثي والآثاري وعالم الكتب ومسارات الترجمة.
- جمهور البرنامج الثقافي وإشكالياته عامة، فهو نخبوي غالباً، ومهما حاول الاقتراب من شرائح أوسع؛ فإنه يبقى بعيداً عن الجمهور العريض إلا ما كان بزي المسابقات والفوز والخسارة؛ مما يقدم الثقافة كحلبة مصارعة ومادة ملائمة لروح الاستهلاك. ومن المعلوم أن الاهتمامات الثقافية عبر التاريخ هي اهتمامات نخبوية أو اختيار من باقة خيارات نظراً لارتباطها بالمواهب والمزاج.فالمنتَج الثقافي غالباً لا يخص حاجات الإنسان الجسدية أو متابعاته اليومية، وهو مما يدخل فيه البرنامج الاقتصادي أو السياسي أو الرياضي، فما بالنا اليوم ونحن في عصر السوشال ميديا حيث إن كل شخص هو موضوع وأداة وفكرة وأنا متضخمة، لا تعرف حدودها أو شكّها من يقينها، وقد تلاشت حدود الصح والخطأ والجدّي والعابر والمقيم والمتحول.
- في سياق تلفزيون سوريا أيُّ جمهور سيستهدفه البرنامج الثقافي: الجمهور الموالي لسياسة المنصة، أم جمهور الخصم السياسي والأخلاقي. هل سينشغل بمتابعة سقطات ذلك الخصم وأخطائه في الحيز الثقافي، متمثلاً في اتحاد كتاب النظام ووزارة الثقافة وعالم النشر والأنشطة الثقافية لتسليط الضوء عليها، أم أن عليه أن يترفع عن ذلك! وينشغل بدلاً من تلك المناكفات بتسليط الضوء على منجزات ثقافية يعمل عليها المناصرون للخط السياسي والفكري والأخلاقي، وهو خط قيم ثورة 2011، خاصة أن أولئك المؤمنين بتلك القيم يعيشون في عدة جغرافيات، داخلية وخارجية بسبب عامل اللجوء، وبات عدد منهم يشكل ظاهرة ثقافية، مما يبرز البعد الحضاري لـ سوريا ويعمق حضورها بصفتها جزءاً فاعلاً من المشهد العربي والإنساني الثقافي، بمهنية ودون تطبيل، أو انتفاخات.
- الجمهور الداخلي ذاته هل هو متاح؟ وهل يمكن أن يخصص وقتاً لبرنامج ثقافي، ولقمة الخبز عزيزة على كثير منهم، والدفء غير متوفر، والأمان مفقود؟ وهل يدخل البرنامج الثقافي في منطقة ترف لا تسمح بها الظروف السورية المعاصرة، بخاصة لسوريي الداخل، الذين إنْ وجدت لديهم كهرباء فسيخصصونها لشحن موبايلاتهم أو لقضاء حاجات معاشية يومية تلح عليهم!
كل ذلك يجعل فريق عمل البرنامج الثقافي في حيرة من أمرهم، فكيف السبيل لمواكبة التغييرات التي تحدث في العالم، وكيف يمكن توسيع فضاء مفهوم البرنامج الثقافي أكثر ليشمل ما يحدث في عالم السوشال ميديا من محاولات فنية وفلمية وسردية وإفساح المجال لهذه الأنشطة، كونها تشكل جزءاً رئيساً من المعرفة والثقافة في العصر الحاضر؛ لتكون جزءاً من البرنامج.
يدرك فريق البرنامج أن هناك محاولات كثيرة لتغييب الهوية السورية في هذه المرحلة أو تمييعها أو تشويهها، بل هناك محاولات أخرى لإحلال هويات فرعية وتثميرها بدلاً منها، مما يجعل التعويل على الثقافي ضرورة أكثر وأكثر، كي لا تضيع البوصلة، وتتم مراكمة الخسائر؛ التي تمس جوهر الهوية السورية والذاكرة وتوثيق مفاصلها وتحولاتها وصيرورتها، اليومي منها والاستراتيجي؛ لذلك فإن التواصل مع المنشِّطين الثقافيين والمبدعين السوريين ضرورة لمواكبة تغيرات الذائقة ومفهوم المادة الإعلامية.
تحضر كل تلك الأسئلة السابقة وأنا أتابع "ضمائر متصلة" عبر شاشة تلفزيون سوريا، المشغول بعناية ومودة من فريق العمل، الذي يعده ويقدمه الشاعر السوري ياسر الأطرش، وأستذكر أنَّ أي مشتغل أو مهتم في شأن البرنامج الثقافي التلفزيوني يدرك أنه ليس ببرنامج تسلية أو "شو" أو ترفيه، لذلك من الطبيعي أن تكون مشاهداته أو جماهيريته ليست بحجم تلك البرامج، لكن من المهم أن يكون برنامجاً مهنياً يوثق اللحظة الحاضرة للحراك الثقافي السوري، وكذلك أن يحاول الإسهام في بلورة الهوية السورية من خلال تحفيز الإبداعي في الذاكرة السورية، ونقل المهمش المختلف في جهات سورية كلها، الذي يثري تلك الهوية في إطارها الإقليمي والعربي، بمعنى أنه يبحث عما يجمع وليس عما يفرق، فيما ننتجه نحن وما ينتجه الآخر حولنا، وكذلك صورتنا عنه وصورته عنا.
يقدم البرنامج مختلف أنواع المادة التلفزيونية؛ فيتناول في كل حلقة منه ملفاً أدبياً، أو ثقافياً أو فكرياً عبر حوار مع ضيف، أو ضيفين أو أكثر. ينوِّع في الضيوف والقضايا ووجهات النظر. يطل على الساحة الثقافية والإنسانية، يريد أن يقول: لا تنسوا الثقافة والفكر، فالحياة ليست مجموعة انفلونسرز يا قوم!، يبحث عن مشاهدين ليس هدفهم الرئيسي "الترند" وهم شريحة باتت قليلة جداً جداً، فـ "الترند" صار جزءاً من تفاصيلنا، ونحن أسرى له، بطريقة أو أخرى، لكن الترند قليل الحضور في عالم الثقافة.
أنظر إلى الجهد الكبير الذي يقدمه فريق العمل، ومحاولاته الإحاطة بكل ما سبق، يحاولون المرة تلو الأخرى مقاربة كل ما هو حار في الثقافة، مع محاولة الترفع عن المناكفة الثقافية غير المفيدة، فالثقافة، عامة، بناء وليست مساهمة في الهدم، وضرورة أن يكون البناء على بّينة ووضوح.
يتناول برنامج "ضمائر متصلة" قضاياه الثقافية بصفتها جزءاً من مشهد الحياة وتحولاتها، وهي مقاربة تحتاج جهداً إضافياً في سياق جمهور التلفزيون
يقدم البرنامج تقريراً تلفزيونياً عن ملف كل حلقة أو سواه، ويرافقه مادة فلمية من صور ومقاطع مشهدية تدور في فلك الموضوع الرئيس، ويسعى للإفادة من الإنفوغرافيك حول إحدى الشخصيات المؤثرة في موضوع الملف أو سواه، يحاول أن يفيد من الموسيقا والتصوير والديكور لإيصال رسالته. يأخذ ذلك وقتاً طويلاً من فريق العمل. وحين يتلقى مقدم البرنامج، عبر تويتر، إشادة من أديب أو ناقد عربي أو مشاهد بحلقة من حلقاته يحتفي بها ونحتفي نحن المؤمنين بدور الثقافة معه، كأننا نريد أن نقول: أيها القوم ما تزال البشرية بحاجة للمثقف، رغم أننا نعيش في عصر التفاهة والانفلونسرز، ولن نيئس، ولن نستجيب لمقولة أطلقها المفكر علي حرب قبل أكثر من ربع قرن حول موت المثقف، في كتابه: أوهام النخبة أو نقد المثقف.
يتناول برنامج "ضمائر متصلة" قضاياه الثقافية بصفتها جزءاً من مشهد الحياة وتحولاتها، وهي مقاربة تحتاج جهداً إضافياً في سياق جمهور التلفزيون، إذ لابد من تقريبها للجمهور بطريقة شائقة، وكذلك الإبقاء على جديتها، ورزانتها وعدم تسطيحها.
يقدم تارة رواية جديدة عن قضية راسخة، لا يستحدث صراعاً غير موجود، بل يحاول أن يجعل المعرفة هي البوصلة. يسعى للابتعاد عن المبالغة في توصيف الظواهر، أو استعمال لغة عامة غير محددة، أو الركون إلى المعجم الكلاسيكي عبر عفوية لغة الصحافة القريبة من اليومي. ينسى الشاعر المقدم إلقاء الشعر إلى حد كبير، فيعول على طبقات صوته وحرارة حماس المثقف للقضية التي يطرحها. ثمة اشتغال إضافي يظهر في البرنامج عبر زاوية الرؤيا والملفات المثارة في البرنامج، فتحاول الأسئلة الهروب من الرؤية التقليدية التي تقوم على ثنائيات الأبيض والأسود للبحث بين الفراغات عن مساحة إضافية للحوار.
في البرامج التلفزيونية التي يكون الضيف جزءاً رئيسياً منها، يمكنه أن يضيف الكثير للحلقة وموضوعها، لكن كذلك يمكنه أن يكون عامل إضعاف لموضوعها. ثمة خشية دائماً لدى فريق البرنامج من ضيف ضعيف معرفياً، أو من ضيف متلكئ أو متردد أو غير منطلق. هناك ضيفٌ يرفع الحلقة وضيفٌ يخيب الأمل؛ مما يجعل مقدِّم البرنامج محتاراً، يذهب يمنة ويسرة، ويدخل في تفاصيل جانبية لملء فراغات الأجوبة، وقد وجد أن الوزن المعرفي المطلوب ليس عند هذا الضيف أو ذاك! إذ ليس من السهولة أن يقبل كل الضيوف الظهور عبر شاشة محلية ذات عمر قصير. ها هنا منافسة من نوع آخر، في سوق المحطات التلفزيونية، فهناك محطات برجوازية "بلغة الخمسينات من القرن الماضي" تسيطر على السوق، اسمها ذاته "بطاقة عبور نحو الضيف"، وثمة منصات تحاول أن تشق طريق حضورها، وهي تدرك أن البرنامج الثقافي ليس برنامجاً جماهيرياً، بل يتوجه إلى شريحة محددة، لكنه جزء رئيس من العمود الفقري للرسالة والهدف، خاصة أننا في سياق "ضمائر متصلة" أمام برامج ثقافية في برنامج واحد يشمل التراث والفنون والشعر والترجمة والإصدارات والتطورات الفكرية والثقافية، مما يجعله برنامجاً مزدحماً، أقرب لمجلة ثقافية ضمائرها متصلة منفصلة، يبحث عن هوية مركبة، صعبة التحقق، مفتوحة الشبابيك، ينظر إلى تلك المقولة العتيقة كمرآة: ليس بالإمكان أكثر مما كان، ويتابع: أم أنه بالإمكان؟